– ب –
بعد ان تصيبني نوبة الكآبة اياها ,
أدير مقدم سيارتي العتيقة نحو ذاك الطريق الاسفلتي الذي يميل يمينا وشمالا مثل حال بلدي الذي لم يستقر على حال ,تحيط بجانبيه ألأبنية التي تنوعت ما بين قديم وحديث ,
ابنية كثيرة احتلت مكان غابات النخيل التي كانت يوما روح البصرة وفردوسها المفقود ومرتع أهلها الدائم.
طريق مزدحم دوما , أسميته سابقا (طريق ألحياة)
سيارات , بشر , عربات بخيول وأخرى بمحركات , زوارق و أبلام مربوطة على ضفاف انهاره الصغيرة التي غزاها الملح بقوة وقسوة , مهددا كل شيء اخضر بالذبول والموت .
اشجار نخيل , بائسة , منكوشة السعف مثل شعور نساء اصبن بفاجعة , وبين السعفات , عذوق و عراجين تحمل تمرا جافا , نسى صاحبها جنيها تعمدا او اهمالا .
ويتلوى الطريق , وأتلوى معه ,لمسافة تقرب من الستة عشر كيلومترا ,بدون فواصل كقطار رابض على الارض عرباته تبدأ من (عويسيان )وتنتهي في (باب طويل).
ومع الطريق الملتوي , تترنح سيارتي مع المترنحين , يمينا ويسارا ثم يسارا ويمينا
حتى أصل منطقة (حمدان) وهي منطقة سكن خالتي اياها
أنعطف بسيارتي نحو اليمين واستمر بالسير لمسافة مائة متر ثم استدير نحو اليسار , وحال استدارتي تواجهني (فيلا الحرية ) .
(فيلا الحرية) هذه هي ليست (فيلا )بالمعنى الحرفي للكلمة , فهي (خرابة )مساحتها خمسون مترا مربعا مؤلفة من غرفة طينية بسقف من الصفيح , وركن يشبه المحجر سمي بالحمام جناية وعدوانا.
اما سياجها الخارجي فهو من البلوك وصفائح زيوت الطعام الفارغة , منظر بائس لفيلا مفترضة جنى عليها صاحبها (داود المعوق) فأطلق عليها اسمها الشهير نكاية و استهزاء بالفلل ومحتوياتها فهو يقول ( سيحاسبني الله على املاكي وسيحاسبهم الله على املاكهم , انا املك فيلا الحرية وهم يملكون الفلل بدون حرية)
أما (داود) هذا فقد كان يوما شابا جميلا , وحيدا لامه وأبيه الذين كانوا جيرانا لبيت خالتي , مات ابوه وأمه وبقي هو وحيدا , يسكن (فيلته ), ويعمل فيها كنجار يصنع الابواب وأقفاص الطيور , وأشياء اخرى بسيطة .
في بداية ثمانينيات القرن الماضي أحب (داود) فتاة في قريته , رفضته بسبب انفه الكبير , وقد جاء ردها على طلبه للزواج منها برسالة شفهية تقول ( لا أريده , انفه يشبه …. الكماتين ( حلوى كروية تصنع من السمسم ودبس التمر)……………وبقي بعدها بدون زواج , وأنفه يكبر يوما بعد يوم .
الوقت كان ساعة الضحى وكان لابد لي من زيارة (داود المعوق) في فيلته , لأنني إن لم ازره او اسئل عنه سيغضب كثيرا وأنا لا استطيع اغضابه لمحبتي له.
اطفي محرك سيارتي في بابه
وادخل من الفتحة التي كانت يوما ما بابا , وتصبح امام عيني اكوام الخشب , تبرز من بينها عبارته الشهيرة المكتوبة فوق الحائط ( دفعنا الأثمان كي نشتري أوطان , لم نحظى بوطن ولم نسترد الأثمان)
يستقبلني (داود المعوق) وهو فرحان بمقدمي اليه وهو يغذ السير أو القفز على قدم واحدة اما الاخرى فلقد فقدها في الحرب العراقية الايرانية واستعاض عنها بعكاز من المنيوم وبلاستك
ابو سلمان شلونك ؟
الله حيو (تحية للترحيب في البصرة)
ويحاول استدراجي للجلوس فوق اريكة كانت يوما تجوب الارض كمقعد ركاب في سيارة عتيقة
وفجأة يفجر قنبلته ( الله يرحمها أم طالب كانت مثل أمنا جميعا )
تسمرت عيني على سمك مجفف فوق حبل الغسيل وأنا اتلقى ألخبر فأم طالب جارة خالتي وصديقتها وكانتا اكثر من اختين , انه خبر اليم .
ام طالب ماتت؟
اي الى رحمة الله.
سحبت يدي من بين يديه وخرجت مسرعا لبيت خالتي وصوته يلاحقني
( والله عبالي تدري)
لكنني لم اكن اعرف ابدا.
—