(( أيها القادمون , من وراء المحيط
في احتلال جديد . . .
لن تكونوا كما الفرات
في سيره فوق روح المعجزات . ))
هكذا تسترخي الكلمات أحيانا وتشتد أحيانا , عذبة موحية وعميقة في المطولة الشعرية للشاعر (( عدنان حسين )) والموسومة (( خطبة العربي الأحمر )) . في تناص جميل يتفرد بطابعه الخاص مع خطبة الزعيم الهندي الأحمر (( سياتل )) زعيم قبيلتين من قبائل الهنود الحمر في الشمال الغربي من واشنطن الذين تعرضوا للقتل والمحو على يد (( الرجل الأبيض )) وتم الأستيلاء على أراضيهم واذابة هويتهم في مجتمع (( الرجل الأبيض )) . وتتناص هذه المطولة أيضا بأستعارات واستلهامات مع قصيدة (( خطبة الهندي الأحمر – الأخيرة – أمام الرجل الأبيض )) للشاعر (( محمود درويش )) التي استوحاها من خطبة الزعيم سياتل أيضا .
يستهل الشاعر عدنان حسين مطولته بأستهلال جميل موحي ومعبر عن جسامة الفعل المنتظر وشراهة وليمة السيد الجديد – الغول الحديدي القادم بالنار والخراب :
(( اذا ,
ماأكتفيت . . .
ياسيد البيض . . . ))
ويتدرج بنا بأنتقالات مقطعية مليئة بالدلالات والأيحاءات والمعاني , بصور شعرية تتفاوت في العمق والأيحاء . ويرمز لبعض مقاصده وغاياته بكثير من الأستعارات التأريخية والرموز التي تدل على معرفة واسعة واطلاع وثقافة مكنت الشاعر من رصف عباراته بثقة تامة .
وبرغم التناص الذي نلمسه في أماكن عديدة بين هذه القصيدة الطويلة وقصيدة محمود درويش المذكورة , وبرغم ان القصيدتين كان محتما عليهما التناص مع بعض مقاطع ومفردات الزعيم الهندي الأحمر سياتل في خطبتيه البليغتين الشهيرتين وهو يسلم أرض قبيلته الى (( السيد الأبيض )) بسبب وحدة الموضوع , الا اننا نجد ان عدنان حسين قد توسع في مضامين مطولته هذه وتوسع في تنقلاته المقطعية لتعزيز هدفه ولخلق وجوه متعددة لأيقاعه , ولأغناء صوره الشعرية ورسمها من زوايا مختلفة . وهذا يوضح الأمكانية والمعرفة الكافية لدى الشاعر لغرض استدراج رموزه الشعرية واستعاراته الجميلة وتوظيفها لخلق الأيحاء الذي يرمي اليه ولغرض الوصول الى الغاية التي يبتغيها من وراء الرسومات والصور المقطعية والتي يرمي الى ايصالنا اليها .
فقد أخذ الشاعر بأيدينا منذ الوهلة الأولى ليصف لنا التمادي وعدم اكتفاء (( سيد البيض – المحتل الجديد )) من الأفعال الشنيعة على مديات هذه الأرض الممتدة من ضفاف المسيسبي الى فلسطين الى هنا .
(( كم قتلت ! !
ياسيد الخيل . . من اخوتي . . كم قتلت
في أمس روحي
كم تماديت ! !
يارب الحديد . . ))
وفي باب فرض واتمام مشروع الصداقة – صفقة ووليمة الرجل الأبيض – صفقة مشروعه الجديد – صداقته التي تفرض عنوة – احتلال الأرض بذريعة شراءها وتوطين احتلال اناس آخرين غير الناس المتجذرين فيها :
(( ياسيد البيض ياشيخ القبيلة
وصلت منك رغبة , أن تشتري أرض القبيلة
طالبا مني
عقد مشروع الصداقة
من أنت حتى تدرك اليوم الصداقة
بين القتيل وقاتله . . . ))
وفي اضاءة جميلة ولمحة عميقة ذكية من الشاعر :
(( مابيننا . .
هو اتفاق الفصول
في اندحار الحقيقة ))
ويوظف الشاعر رموزه التاريخية لأجل دلالات وتوسع أكثر في موضوعه الشعري :
(( هاهنا في أرض المحال
في أرض موسى والجليل . . .
أرض دلمون الخيال . ))
ويتوسع الشاعر أكثر في ترميزاته للوصول الى ايحاءات عميقة تمس وجداننا في سر الوجود والخلود بصورة شعرية تنبض بفلسفتها ووعيها التاريخي والحضاري في استلهام ارث المكونات الأنسانية المتحضرة التي كانت قائمة هاهنا :
(( في بابل القمح قداس الحياة
في أرض سومر كان النخيل
حارس الروح
من كل دخيل . . .
كان حتى القصب
فيه سر الأله . . . ))
وغير ذلك الكثير من الرموز التاريخية والأستعارات الوصفية والنقلات الدلالية التي اقتحمها الشاعر في مطولته عن مقدرة ومعرفة وكفاءة في الصياغة والرسم والأيقاع وخلق الصورة الشعرية التي ندركها ونستأنس ونتحفز بها وهو يقودنا اليها بيسر ليوحي لنا بقصده وغايته . حيث (( موسى – الجليل – دلمون – سومر – بابل – انكيدو – اور – آشور – يحيى المعمدان – روح القدس – داوود – السامري – الناي – القصب – الطين – أرض الصفاء – الفرات ودجلة – وغيرها )) والى (( سيد الرخام – الحديد – اله البيض – الوثن – سارق النور – واهب الموتى – نبي الهلاك – طائرات – حاملات – وحش الدمار – شيخ واشنطن – صلبان الحديد – عصرالجليد الجديد – سامري العهد الجديد – طالوت الدمار – ظلال وحوش الحديد – نار نمرود – سيد الزمن الجديد – وغيرها )) .
وقد تعمق الشاعر ببعض الأستفاضات التي منحها لمسة فلسفية جميلة وسلسة ومقبولة :
(( تجلي الفرات
في سفر تكوين الوجود ))
(( دجلة الخير ماكانت تكون
كأي نهر في هذا الوجود
فيها ابتداء واعتلاء وانتهاء في الأبد . . ))
(( أنا الأحمر الهندي / أنا الأسمر العربي ,
نحن أبناء الوجود
فوق بادئة الحياة
عند مفترق الأبد )) .
ويذوب التناص الذي نوهنا عنه في بعض مفردات عدنان حسين مع قصيدة محمود درويش في عدد من الومضات مثل (( الأله الجديد – اله الحديد – سيد البيض – النبيذ – لكم ربكم ولنا ربنا – حليب الحنين والأمهات )) ، يذوب هذا التناص ونحن ننتقل بين مقاطع المطولة ويتلاشى , لتستولي على مخيلتنا الصورة والمفردة والأستعارة الشعرية الخاصة التي يبتكرها الشاعرعدنان حسين التي تميز قصيدته عما سواها .
ويقودنا عدنان حسين ببراعة الى كسر معادلة الموت الحتمية والزوال المؤكد الذي جاء به الينا سيد العالم الجديد , حيث تتكسر وتتفسخ على عتبات تاريخ هذه الأرض والشجن والبردي والناي والطين والعصافير ولغة الأرض العظيمة :
(( هذه الأرض لم تكن
هذه الأرض لن تكون
هذه الأرض لاتكون
أرض ميعاد الوهم
أرض ميعاد الجنون )) .
(( هنا كل شيء يرى في كل شيء
هنا ارتباط الزمكان , بوجود ينتهي نحو الأبد ))
(( بين دجلة والفرات
وسهول الناصرة
يوقد انتشاء الحياة
بروح الكائنات
رغم العدم . . )) .
لقد اختار الشاعر عدنان حسين موضوعه الشعري من (( عمق الفجيعة )) التي تحتاط بنا وبشعوب المنطقة , ودخل الى صلب وجودنا وهمومنا ونحن نتعرض الى محاولات ممنهجة ومرسومة في أعتى معاهد الخبرة والأختبار , (( متعددة )) الوجوه والأشكال لغرض هدمنا وازالتنا وطمس هويتنا قدر مايتمكنون , اسوة بالهندي الأحمر . وقد كان الشاعر موفقا في ايصال موضوعه وايصال صوته المهموم المناضل المحتشد مع همه الوطني (( الذي أحييه )) الينا بمطولته الشعرية الرائعة , المليئة بهمنا وهاجسنا المصيري في ظل زحف أطماع وشهية الآله الجديد الى وليمة أكبر – نحن وقودها – . وقد كان عدنان حسين قريبا جدا الينا في صوره ورموزه ودلالات موضوعه .
Kareem_pen@yahoo.com
—