زكية خيرهم :
تلك تراجيديا الصراع …!
وهنا خليج عملاق
تتوسطه صخرة وطريق للصعود على جبل
وهنالك تمثال للمسيح
فارع الطول … باسط الذراعين
سوف أستمر في الكتابة …
لا يُهِمّما أكتب
أخط كلماتي
لتخرجني من شرنقة الاغتراب
زكية خيرهم
جواز سفر
قصة قصيرة
ذلك اليوم المشؤوم كان غير باقي الأيام، وتلك اللحظة بالذات كانت بركانا فيه كالسعير. لون السماء رماديا يميل إلى السواد. والغابة التي كانت قريبةَ من مسكنه تبدو موحشةَ تعبث بأوراق أشجارها الكثيفة الرياحُ، وتزيده كآبة. صوت زمهرير يرتمي على المكان وعاصفة هوجاء تحترق في غفلة أشبه بالجحيم.
كان يمشي ذهابا وإيابا داخل غرفته المتشحة بالسواد، لم يعد يستطع أن يرى بصيصا من نور ولا ذرة من أمل. يُمسِك صرختَه المكبوتةَ بين يديه وصوتُ نُواحه المكتوم غادره الزمان. يتعثر في همّه. عواصف الرياح خارجا كما عاصفة انسلاخه وخوفه المحتضر تائها في همه اللامتناهي؟ أوديسيوس عصره، التائه بين الظل والبحار، أبحر ما وراء الشمس الغاربة وطوال الطريق ظلّ يحلم بالعودة إلى “إيثيكا” أو الوطن.
يجرجر أقدامَه وروحَه المنقبضة ُ أنفاسُها في تتثاقل والتساؤلاتُ تطرق في ذهنه عن لغزه الموبوء. يطير بفكره هروبا قسريا إلى وطنه، يتحسر على الساعة التي قدم فيها إلى بلاد الإفرنج وطنِ الحريةِ والرخاء. تمنى لو استطاع أن يرجع به الزمن ليحل حيث كان وحيث أحبتُه وأهلـُه. ها هو الآن يتوجع في غربة موحشة تؤلم داخله. أنا الذي اخترت طريقي ورضيت خيبتي وهواني وضعفي. أنا الذي قبلت المكوث هنا في بلاد السلام، ولم أجد السلام. انا من غوت به إنسانية هذا الوطن، فلم أجد إلا عبودية، وقمعا وسجنا. ضرب بقبضة يده الحائط بقوة. شعر بصقيع يسري في جسده، قرفص في صمت متمسكا بسراب قادم من غياهب المجهول، سراب قد يُسكت صوت جراحه. يُفكر في وهن إيجاد منفد للهروب من تلك المدينة المحاطة بالجبال الشاهقة وكأنها حصن منيع مشيد بأحجار عاد وثمود. حتى وإن أردت الهروب ، ماذا عن ابني الصغير ، ثلاث سنوات فقط في عمره. المسكين، ولد بكلية واحدة، أظن بسبب والدته التي تتعاطى الكحول، وبسبب عدم اهتمامها عانى الحمى مرارا وتكرارا وكم بكى ليال كثيرة طوال. أنا الذي سلمت نفسي لها وشاركتها حياتَها من أجل جواز سفر. بعدما رفضت إدارة الأجانب منحي الإقامة، اسودت الدنيا في عيني، وتذكرت السجن في وطني وما عانيته هناك من المخابرات التي كانت كظليلا تفارقني. كنت أحادث نفسي وانا أحتسي الشاي في مقهى وسط المدينة فإذا بي ألمح “آن ماري” ، تجلس وحيدة رغم أن المقهى كان يعج بالزبائن.
امرأة في الثلاثينات بدينة حدّ السمنة يتصبب العرقُ من أعلى وجهها اليائس. كانت قد خرجت منذ أسبوع من مستشفى مدمني الكحول، لا تزال في حالة نقاهة، تستجمع شظايا روحها المتعبة، تُلملم أشلاء انهزامها المنكسر، واستعادة السيطرة على حالتها غير أن لا لون للذي وطأ على أرض الإدمان. ابتسامتها مختفية وعينان جميلتان ثاقبتان بلون اليمّ يملأها العطش. فؤادها جريح يحتضر في صمت.
كانت تسرق النظر من حين إلى آخر إلى الزبائن المستغرقينَ في أحاديثهم المجدولة ببعضها. في روحها نار ..تُحاول إطفاءها جاهدة كي لا تحرقها. ترفض أن تستغرق الوقت في التأوه، تريد أن تتقاسم ألمها مع شخص ما. قابعة َ وحيدة هناكترتعش على كرسيها الذي لا يتقن العشق؟ نظرت اليها وبسرعة قابلتني بابتسامة. حملت فنجان الشاي ومن دون استئذان جلست بقربها. كل شيء كان سريعا. اعجبت بي، وانا كنت معها صريحا:
_ انني أسعى إلى جواز سفر.
وافقت. فتزوجنا. ولكي احصل على ذلك الجواز كان علي أن أكون خادمَ البيت. انظفه، أرتبه، وأطبخ الطعام، وأحمم القطة، وأنظف مكانها ومرحاضها أيضا. وحين أنهي تلك الواجبات، تصرخ في وجهي:
_ أذهب إلى بيتِ والدي ثمّ نظفه، واشتري له ما يحتاجه من كحول وسجائر ..
كنت أطمع في أن تكون لي موطنا في غربتي، أن تريح عقلي المتعب، و تبعثَالنبض في قلبي بدهشة وتجددَ ذاتي في حياتي الباهتة اللون. تريد أن أتقن لغتها. كيف لي وأنا من تركتني الكلمات فتهت في خلائي المشبوب بالصمت. واشتغلت في تنظيف شوارع الحديقة بثمن زهيد، ممكن أن أتلقاه من الضمان الاجتماعي وانا جالس في بيتي. أستيقظ باكرا في فصل الثلج وفي كل الفصول ، غاضبا أبكي على أطلال موطني وعلى خيبتي ومآلي. أرمق من حولي وجعي الساهد وبؤسي الصاخب عن همي وغربتي. لم افهم قانون هذا البلد ولا نمط حياته. ومن قال لهم أريد تعليم لغتهم؟؟!! لا أريد شيئا إلا أن أخلوَبنفسي بعيدا عنهم وبعيدا عن نفسي من نفسي، وعن الخوف وذكريات التعذيب في السجون ، بعيدا عن المخابرات والكهوف المليئة بالثعابين والعقارب المتربصة بي عبر ثقب المدى الماثل أمامي كظلمة في صحراء بلا قمر ، أساوم فيها وجعي المستميت للخروج من شرنقة وحدتي.
غدوت كأوراق خريف متساقط حين أنجبت ابني معها … نعم، ابني أنا … أنا الذي كنت أسهر معه الليالي حين يمرض، وأنا من كان يغير له حفاظاته. دميمة تفتقد الاحاسيس. كانت ترفض أن ترضعه، وتكره الاستيقاظ ليلا حين يبكي. أما أنا فكنت أنظر إلى عينيه التي تشع أملا وابتسامته التي ستعيد لي حياتي التي ضاعت، وسيملأ وحدتي ويكون لي سندا في غربتي. كنت له أما وأبا أهدهده، أَحرسه بعيوني الساهرة وأراقص نظراتِهِ إلي، سبحان خالقِه الذي أتم جمالَه. لم أعد أتحمل حياتي معها، جسد بلا روح . صمتها كئيب وقلبها جاحد لا يعرف الحب ولا الأمومة. تحاول عبوديتي، توجعني باستهتارها لابننا وكأنها لم تنجبه.
انفصلت عنها وأخذت ابني معي للاهتمام به. بعد ثلاث سنوات طلبت الحضانة، وحكمت المحكمة لصالحها. فأصبح ابني يعيش مع ام لا تتقن الأمومة. تطعمه الحلوى والشوكولاتة، كم مرة أصابه اسهال وحمى. و جسمه امتلأ ببقع زرقاء. هل هذه ام أم وحش كاسر في صورة انسان. حين كنت أصرخ في وجهها لأفعالها. اشتكت بي للشرطة، وللمكتب الأسري ، فانتزعوا مني حضانته فأصبحت أهوي في بئر من فراغ. يتراءى إلي بكاءه وأمه تغطّ في اللامبالاة، كدت أفقد عقلي، وخوفي لا يفارقني … يعتريني متربصا بي في ليلي ونهاري. كيف سأرى ابني والشرطة منعتني زيارتَه. ذهبت إلى الروضة لأراه، فلاقتني مربية هناك صارخة:
_ من أنت يا مسكين اذهب من حيث اتيت ولا تفكر أن ترجع …. هنا لا مكان لك ولا لأمثالكَ. .
فقدت صوابي … أمسكت بحجر ورميته اتُجاه الشباك حيث تطل. فما هي إلا ثوان حتى وقف علي أربعة من الشرطة، ضربني أحدهم بالهراوة على رأسي فهويتبين الإغماء واليقظة، والسياط من نار شتائمهم يلسعني مغشيا فوق الأرض أبحث عن مخارج الحروف التائهة وراء الضباب الذي كان يحجب عني قُرصَ الشمس. كنت أسمع أصواتَهم وكأنها قادمة من بعيد
_إن رأيناك هنا مرة أخرى سنرميك خارج الوطن.
لم أعد أرى شيئا … إلا نورا قويا يحجب عني الرؤية، وكأنني أمشي في القدّاس الجنائزي لموزارت باتجاه هوّة لا يمكن أن تراها إلا عندما تصل إلى حافّتها، حيث ينتظرك الخلاص. وأنت لا تعرف هيئته ولا رائحته. وكلما أقترب يساورني أحساس برعب منتظر.
إذا كل عنائي وصبري الطويل في معسكر زوجتي وتحمّل آلام سهامها المسمومة التي كانت تطعن قلبي وصبري الممسوس بهوس الحرية ونيل جواز السفر. ضحكت ضحكا مشوبا بالبكاء عن جواز سفر دست بسببه على كرامتي، ورفعت راية الدل والإذعان، وبلعت لساني، وقتلت نفسي يوميا لنيله ونيل الحرية حتى أطير مخترقا كل الحواجز ومطارات العالم، وحتى تكون لي حقوقُ اهل البلد. لكن هذا الجواز لم يحميني من هؤلاء الشرطة ولا من زوجتي ولا من المحكمة غير العادلة …. هذا الجواز جعلني في انتظاره ابتلع جراحي وأموت في اليوم ألف مرة. وضعت احاسيسي جانبا وكأني في هبوط اضطراري. بلعت لساني، ورميت بكبريائي في القمامة، متلحفا بعباءة الخنوع حين يتعالى الصراخ من حولي. وأرفع أحيانا راية الاستسلام. وتارة تهطل دموعي حرّى على موسم شتائي، عن هزائمي المتكررة في تاريخي المستسلم وشجون قلبي الكسير. طأطأ براسه يتمعن بساط الغرفة الشاحب كروحه: ” هنيئا لك أيها الرجل الشرقي، أصبحت روحا بلا جسد، تتعثر في غياهب العتمة، يلعنك الليل ويلفظك النهار، هنيئا بأرض ليست أرضك ولا السماء سماءك. كنت باسقا كالسرو ، فخورا ، مغرورا ثائرا وأميرا. والآن اندثر ماضيك وسط عتمة أزلية. نظر من حوله، يتأمل غرفته الكئيبةَ. تبعث فيه الاشمئزاز. ما عاد يشعر بدفء الليل وما بات ينعم بأمواج السكينة. إن هذه الجدرانَ البيضاءَ لم تخلق لنفوس سوداء. فحيح الوقت يعلن الأجل، ينظر إلى مكتبه … يتجه إليه بخطوات بطيئة … يفتح درج المكتب …يخرج جواز السفر، يمسكه بكلتا يديه، يُقهقه عاليا …
يا لهذه الحياة تنأى بنا وتدنو مثل ضربات قلب عملاق نائم يحلم بأحلام وكوابيس. يجلس على الكرسي، يشعر بالسكينة لتوان، يطير بفكره لعالمه المليء بالحروب والمآسي والصراع الأجوف. وفي وسط عاصفة أفكاره الهوجاء وصحراء غربته القاحلة تيقن أن حروبه لن تنتهي. وضع جواز السفر في جيب قميصه، أمسك بالمسدس الذي كان على المكتب، صوبه نحوه ، ضغط على زناد اليأس فسافر عبر حقول سرمدية متجها نحو السماء ومن دون جواز سفر.
—