«عند كل خطوة، هناك لوحات جاهزة للرسم يمكنها أن تُشغل عشرين جيلاً من الفنانين». ( ي.ديلاكروا )
سماء زرقاء صافية وبيوت بنوافذ صغيرة وأزقة ضيقة وفضاء رحب تتخلله أشجار النخيل ،ومنظر فتاة منتقبة بنظرة عميقة موحية يتخللها الخفر الشرقي تحمل جرة لتملأها من البئر، وشيوخ يشع السرور من وجوههم يلعبون النرد أو منظر الصبية بقنادرهم المغربية متحلقين حول شيخ الكتاب “سيدنا” كما يسمى في مصر…. ،شكلت هذه المناظر عوالم مغرية مثيرة للمخيلة الفنية الأروبية المكدودة من كلاسيكيات القرن الخامس عشر والسادس عشر مخيلة تعبت من رسم القصور والنبلاء والأمراء وأحصنة السباق أو ليالي السمرالفخمة ،فكان القرن الثامن عشر الذي دشنته أروبا بعصر رومانسي يهتم بالفرد ونوازعه وميوله ويقدس اللحظة الشعرية التي تنفتح على التجربة الفردية لكأن الفن وعاء والشعور السائل المسكوب ،عصر تمردت فيه أروبا على العقلانية الأرسطية والديكارتية على السواء وتخلت عن قوانين الوحدات الثلاث في المسرح والمواضيع الكلاسيكية الفخمة احتذاء بكبار مبدعي الإغريق ،عصر عاد فيه الإنسان إلى ذاتيته وإلى خالص نفسه يسبح بحمد قلبه ويهيم بتقدير بنات فكره بغض النظر عن سمو الموضع أو ابتذاله مادام المعيار هو صدق التجربة وحدة الشعور ورصانة الأداة لغة أو شكلا أو لحنا أو لونا عصر عرفنا فيه هوجو ولاماتين وألفريد دي موسيه وليوباردي وكيتس وشللي في الشعر والنثر وعرفنا لفيفا من الموسيقيين المبدعين المتمردين على القوالب القديمة وعرفنا جيلا من الرسامين الذين فتحوا اللوحة على الإنسان في سموه وابتذاله في نبالته وخسته في عراقة منبته وفي حطته من نبيل إلى صعلوك إلى أميرة إلى بغي إلى عاقل وإلى مجنون مادام الإنسان هو الإنسان سيد الكون الذي أشكل عليه الإنسان بتعبير أبي حيان التوحيدي وليس كالطبيعة في عفويتها وفي تناغمها في حكمتها وتوحشها، في عبقرية ألوانها وفي سحر نوتة نجومها وكواكبها في تتالي أمواج بحرها بإيقاع شعري ملهما لهذا الجيل من الفنانين المبدعين الذين تفتقت مواهبهم عن رسم رومانسي خلد بلوحاته العظيمة.
ومادامت الرومانسية في صيغتها الفنية الأدبية أو التشكيلية أو الموسيقية تقدس الإنسان أي الفرد وتراها تدين الظلم والرتابة والقروسطية والتقليد للأقدمين تراها تحتفي بالحرية وبالتمرد والثورة على الطغاة والمستبدين وتقدس الفعل الثوري وتهيم بالحرية في نمط الحياة وفي شكل الإبداع كما قرأنا ذلك في شعرهم وفي نثرهم وسمعناه في موسيقاهم وتأملناه في رسوماتهم.
ويوجين ديلاكروا أحد أقطاب فن الرسم في القرن الثامن عشر الذي كان يقول عن نفسه :” إنني أعيش وكأنني في حلم وأنظر إلى الأشياء بفضول خشية أن تهرب مني”، والذي ولد في سانت موريس بفرنسا في 26 أفريل عام 1798أي في نفس العام الذي غزا فيه نابليون مصر ونهب تراثها القديم وتوفي في 13 أغسطس من عام 1863وككل فنان ظهرت عليه مخايل النجابة الفنية منذ صغره فانخرط في مدرسة الفنون ومارس الرسم متأثرا بمايكل أنجلو وسافر إلى شمال إفريقيا ولقد قيل عن الجزائر تحديدا من قبل الرحالة الغربيين والفنانين: “لقد أصبحت الجزائر بالنسبة للمصورين أكثر أهمية من الحج إلى روما” وقد غدت قبلة الفنانين بصحرائها وقراها ونسائها وشيوخها وعاداتها المختلفة بالكلية عن العادات الغربية : بحث ديلاكروا المتمرد عن مواضيع جديدة لرسوماته تحت شمس مراكش اللافحة وفي صخب أمواج بحر الجزائر وفي النشاط والحميمية والتلقائية والمسرة والتعاون في البيوت العربية وفي حاراتها وأزقتها وبكل تأكيد سحرته الوجوه المتخفية وراء النقاب والعيون الكحيلة والقدود الشرقية المياسة حتى أبدع تلك اللوحات المغاربية البديعة لعل أشهرها نساء الجزائر وسلطان المغرب.
لا شك أن يوجين ديلاكروا أحد أكبر الفنانين الموهوبين في القرن الثامن عشر بله وفي تاريخ الفنون بصفة عامة ولقد قال فيه الكاتب الكبير تيوفيل غوتييه:
“هو فنان فريد لا أحد قبله ولا بعده ” وتعود أهميته إلى كونه مهد للدراسات الاستشراقية تلك التي تعنى بتاريخ الشرق ثقافة ودينا وفنا وعلما، ولا مرية في أن الشرق قد سحر الغرب بأريجه العريق وهويته المختلفة تماما عن الهوية الغربية لذا رأينا قوافل المغامرين ورجال العلم والفن يهرولون إلى الشرق بحثا عن المغامرة والاكتشاف للعادات المباينة للعادات والثقافة الغربية.
مما يعاب على الرحلات الاستكشافية من قبل والدراسات الاستشراقية من بعد أنها لم تتخلص من النزعة الاستعلائية الفوقية التي ترى المركزية في أروبا والتفوق في الجنس الأبيض وما عداه مجرد قطعان بشرية يتفرج عليها كما يتفرج على السيرك !
فليس الشرق سوى عالم غارق في الميتافيزيقا يحكمه ملوك متألهون حيث الهيمنة للذكر وتعيش الرعية على فكرة القدر الذي سطر كل شيء فلا داعي للامتعاض ،شرق روحاني تؤطره فرق الصوفية والدراويش ورجال الدين ولا مكان فيه لنظرة علمية بالمفهوم الكونتي ،شرق الجواري والحريم واللذة المختبئة في زاوية قصر أو سرداب وليس للمرأة إلا توفير الراحة والمتعة للرجل تلك النظريات والأطاريح التي مهدت للاستعمار والتبشير في آسيا وإفريقيا وكان لعالمنا العربي نصيب من مكابدة الاستعمار الغربي ولقد كان الراحل الكبير إدوارد سعيد خير من فضح مخططات الاستشراق الكولونيالي في كتابه العظيم “الاستشراق”
لكن من الإنصاف أن نقول أن الحضارة الشرقية لم تنل من دولاكروا إلا التقدير والمودة فقد كان يحترمها ويحترم أناسها وتاريخهم وكان أسعد لحظات عمره حين يغادر إلى الجزائر أو مراكش ولقد قال هو شخصيا عن هذه البلاد الشرقية عموما:” ليت أفلاطون يأتي إلى هنا ليرى بأم عينيه هذه الحضارة، علمنا أن الفرس بربر لا علاقة لهم بالفن والثقافة إن هذه الأماكن خُلقت للفن فقط، تعالوا إلى هذه المناطق البربرية نشعر بطبيعة الأشياء وأثر الشمس في الكائنات التي تخترقها وتشعل فيها الحياة بألق مذهل. فالكل هنا يسير في حلة بيضاء، كأعضاء مجلس الشيوخ الروماني ودعاة ألوهية الكون اليونانيين… وإنك لتجد نفسك في روما وأثينا… تخيل يا صديقي… الرومان واليونان أمام بابي !
لقد كانت العبقرية الكبيرة لديلاكروا هي عبقرية اكتشاف اللون والتعبير به عن المواقف الشعورية التأملية أو الوجدانية الخاصة مواقف شعورية تصطلح على قلب المرء كما يصطلح الهواء على الفضاء والنحل على الخلية وهي في تناقضاتها أو في حدتها أو في غرائبيتها وتناقضها أو تناغمها وفي بهجتها أو ألمها مواقف إنسانية خالدة في حياة الإنسان في كل مكان وزمان وكان اللون هو المعبر عن حدة أو غرائبية أو روعة الموقف الشعوري لذا من يقف أمام لوحات ديلاكروا يدرك أنه أمام مهندس اللون وموزعه بذكاء على فضاء اللوحة في لعبة بارعة بين الضوء والظل ولقد قيل عن رسومات ديلاكروا وبراعته في استخدام اللون وتدرجاته :”جمال وقوة الأشياء التي فيها، معطوفة على إحساس معمّق بالحياة وجماله وكذلك الألوان المتألقة في كل مكان”.
ولعل من أشهر لوحات ديلاكروا نساء الجزائر مع خادمتهن السوداء تلك اللوحة البارعة في استخدام اللون وتوزيع الضوء والظلال للتوغل في الحياة النفسية للمرأة الجزائرية في القرن السابع عشر نساء لا يتهتكن تهتك المرأة الغربية ويحتفظن لأنفسهن بنصيب من الحلم والانطلاقة والاستمتاع بالحياة والسر كله في النظرات.
ولعل كذلك من روائع ديلاكروا لوحة الثورة تلك التي تمجد الفعل الإنساني الثائر والعاصف ضد الإقطاع والظلم والطامح إلى عصر جديد عصر الحرية والمساواة والكرامة.
بيت ديلاكروا اليوم في الدائرة السادسة الباريسية في مكان فخم وشاعري مزار كبير لمتعطشي فنه ومكتشفي سحر لوحاته والمستمتعين بآيات عبقريته ففي البيت الذي تحول إلى متحف وطني عشرات اللوحات والأغراض الشخصية والمراسلات بينه وبين فناني ومثقفي عصره ولعل أروع ما في شقته الحديقة التي تطل عليها الشقة بتصميمها المبدع والشاعري والتي كانت ملهما لديلاكروا وكانت قبلة للزوار تماما مثل لوحاته.