إن الفنان الحديث ينظر إلى العالم الباطني , عالم النفس والمشاعر كما ينظر إلى العالم الخارجي عالم المحسوسات , وكأنه ليس فقط أول من تفتحت عيناه على هذا العالم , بل كما لو كان أول من صاغ هذه المشاعر والإحساسيس في قالب فني , ومن خلال ذلك أكد الإنسان عبر العصور إن لديه طاقة معرفية داخلية خارقة عبر عنها بوساطة عناصره التشكيلية وآلياته المعرفية الرمزية , وإطلاق أسلوبه الفني ليتلاقح مع الثقافات على أساس معرفي وأنساني . وبذلك فان الذات تعمل على انفتاح بنيتها على البواطن ليهب للإشكال طاقاتها في البحث على مستويات ودلالات مختلفة فهي رؤية ذاتية للأشياء والعالم وإحداثه , بحس يمتلئ طاقة وحيوية .
لذلك فالاسلوب الذي اتخذه (فان كوخ 1853 – 1890 ) , طريقاً إلى دواخل الإنسان , هو الذي تميز عن الأساليب الأخرى , فهو الفنان الذي اتبع هواجسه ورؤاه الذاتية وتأملاته وتأويلاته عن الكون والوجود والفن في تصوير مفرداته عبر نظرته الحقيقية الباطنية للحياة وان كانت قاسية , فالمعرفة الذاتية عنده أصبحت في تصوير مشاعره القلقة الباحثة في الحقيقة الباطنية من خلال الطاقة التعبيرية للأشكال الممثلة رمزياً في السطح التصويري , متجاوزاً مسالة التزويق واللعب بالعلاقات الشكلية على حساب المضمون النفسي , ففي لوحته فقد رسم منظراً طبيعياً بالوان متمازجة وثرية كلون ازرق غامض اذ يخيل ان الليل شرع يسدل استاره في الخارج . في جو هادئ ورومانسي لا يخلو من دلالات الحب وسط اضواء المصابيح التي تنعكس على نهر (الروان) لتلامس اضواءها شاطئ النهر وهي تضفي على المنظر لوناً اصفر يبدد العتمة, ويمزق استار الغلالة الكثيفة للأجواء الضبابية مما يوحي بالانطباعية الفنية في تشكيل اللوحة فالأضواء تخفت ويكتسي المكان اللون الازرق الغامق مع خليط من لغات شتى تتقاطع في الاثير وهسهسات خافتة تعلو وتنخفض ويتكدس حولها لفيف من السياح وعيونهم مصوبة نحوها . حيث تعلو الدهشة وجوه المتلقين ورؤوسهم تترنح من شدة الانبهار بالجمال الطبيعي الخلاب الذي يشعرنا بالبهجة الروحية وسط اجواء تتمتع بروعة التخيل حيث ان (فان كوخ) وجد ضالته في الليل الذي يقدم رؤية جديدة لانطباعاته حول الضوء وانعكاساته في الظلام برؤية جمالية حسية تمتزج بعقلية وجدانية. ان حرارة الاحساس لدى (فان كوخ) وانفعالاته قد سمحا له باللعب الحدسي الذي يصنع انزياحاً مباشر من خلال تكبير حجم النجوم وتصغير حجم البيوت والحذف والاضافة الموجودة في ضربات الفرشة , وكانت الظلمة المتوهجة بنور النجوم والاضواء المحيطة بها تشكل لوحة فنية مرسومة بالوان متمازجة وثرية , في الليل فسحة للتأمل في الطبيعة الغارقة في الظلام . كان عليه ان يفرغ القلق الذي يعتريه والحيرة التي تساوره في تلك المشاهد المترعة بالسكينة المتشظية والهدوء المضطرب , لقد اعطى (فان كوخ) اللون دلالات متعددة حين جعله يصبغ اللوحة بأكملها لتظهر كأنها فسيفساء من اللون الازرق والارجواني حيث كثافة اللون الازرق وتدرجاته اعطت اللوحة بريقاً اسراً لكل من تقع عيناه على هذا المشهد وهو ما كان يهدف اليه (فان كوخ) حين جعل اللون الازرق بؤرة عمله الفني . وضربات الريشة تبدو قصيرة وحلزونية في حين ان السمة البارزة في اللوحة هي روح الحركة والاضطراب الذي يظهر بشكل بارز في ضوء النجوم المتوهج وفي الحركة المتموجة لصفحة الماء على النهر والدقة في رسم مواقع النجوم جعلت اللوحة مثار اعجاب للمتلقي كون اللوحة لا تخلو من مشاهد الحياة مما يسهم في اقترابها من محاكاة الواقع . وقد حاول بذلك الفنان ان يؤسس لمعطى ادراكي يغمره الخيال والحدس المفعم بطاقة وجدانية تحرك المشهد. وبذلك وصل الى السكينة النفسية والبهجة الروحية بعد ان اسقط في اللوحة كامل انفعالاته. اذن الطبيعة تكون ازاء هذا الحال مجرد مبرر للرؤية , فهو لا ينقل المحاكاة المظهرية للأشياء بل الحيوية التي هي شرط الجمال الفني وان النفس هي التي تبعث في الطبيعة المادية حيويتها وتفجر فيها المعاني الكامنة التي لا يدركها الحس.