سلام إبراهيم في كل أعماله الأدبية ، وليس حصرا في هذا الإنتاج الإبداعي( الأرسي) ، نجد مهمته الفنية هو إيجاد ظرف تأريخي معين يمكن أن يُدمج بنجاح في الظرف العام وإظهار بطله وهو يحرق ذاته ، لابجدوى الموت التشاؤمي بل بالإرادة الحرة أو بالصرخة ، أو عن طريق تحقيق إمكاناتنا الخاصة في التغلب على الإسترخاء والكسل وتنشيط حيواتنا سواء ان كانت عاطفية اوثورية او بطاقة الأبستمولوجيا (علم المعرفة) التي في عقولنا . وبهذا نستطيع إنقاذ سيادة الذات ودفع عجلة التغيير الى أمام . لذلك نرى تلك العزلة الكسولة لم تعجب أديباً منفتحا معشاراً ثوريا كما سلام ولهذا تفجّرت وتشظّت وفتحت أبوابها اليه كي ينطلق الى عوالمٍ أخرى ولكن أي عوالم ؟؟ . يقول الفيلسوف هيدجر في كتابه الوجود والزمن 1927 من انّ (الموجود البشري هو حقيقة منفتحة على العالم) ، وماعدا ذلك ينتج لنا روحاً إنسانية مغلقة لايمكنها مواكبة عملها وإبداعها بالشكل السليم وهذه أروع ما رأيناها في الفيلم الجميل(صمت الغابة) للمثل الهوليودي الشاب( بيتر بيلاريسن) الذي ينعزل في غرفة ولم يخرج لمدة خمسين عاما سوى رؤية التلفزيون والخروح لحديقة البيت ، وقد رباه رجل ثري يموت ويتركه بلا أوراق ثبوتية من إبوّته ، فيجد نفسه دفعة واحدة مقذوفا في العالم الخارجي فكيف التصرف حيال ذلك . ولهذا وجدنا سلام قرر أن يخرج من هذه الأبواب التي فتحت أمامه عند تفجير العزلة فبعث لحبيبته بغية الصعود الى الجبل والإلتحاق مع الثوار وهنا يتمتم مع النفس الأسيّةِ اليائسة في عبارته الصارخة في الإبداع ، العبارة التي يرددها أكثر من مرّة ، إختصرت كل معاني الشرود الى المجهول ومايأتي منه ( دعْ المیاه تجري كما تشاء التضاریس!. ) فتؤازره زوجته وهذا ديدن الحبيبة التي تتعلّق بعمق كما حال (جيني) حين تقول لزوجها (كارل ماركس) سأرحل معك حتى وان كنتَ ذاهباً الى النار . انهم الثوار في كل زمان ومكان كما طرحها اليوناني (نيكوس كزانتزاكيس) في رائعته الروائية ( المسيح يصلب من جديد) وكيف أطلق تسميته على ثوار الجبل بالأنصار . فيتمنى سلام أن يكون كما الشاهين الحر الذي يهوى الأعالي ومافوق الجبال . فيكون له ذلك مع حبيبته التي طالما كانت بلهفتها المجنونة المأخوذة بحلمها بمدینة ماركس الفاضلة ، التي كانت تعتقد أنها خطت نحو معانقته خطوةً بالتحاقها بثوار الجبل. هذه هي المرأة بكيانها الصحيح وهذا هو الجنس البشري عبارة عن ذكرٍ وأنثى ، الأديب وملهمته ، الفارس والعظيمة التي تقف وراءه ، كليوباترة وأنطونيوس . فما قيمة المرء حينما يكون وحيدا في عزفه ولحنه وما من يدٍ ناعمة تسقطُ فوق جبينه إذا ماأصابته حمّى وسط مخاطر هذه الحياة ، وما جدوى دفاع الجندي والمحارب حين يحتضر من رصاصة في ساحات الوغى إن لم يحلم كيف يقع رأسه المسجى بأحضانها ، وكيف تسقط يداه على أفخاذها وهوفي الرواق المؤدي لعناق الموت .
في بداية حلم سلام الثوري ينتقل مع زوجته بسيارة تقلّهم من الموصل الى الشيخان ، فتخلع خاتم الزواج وتقول له هانحن الآن رفيقان لكي لاينكشف أمرنا لكنها بعد شوط كبير ولسبب وجيهٍ جعلها تستعید منه خاتم الزواج، وتلبسه أمام أنظار الرفاق عارضة عن فكرة الصیانة الحزبیة والأسرار . حتى يصلان المكان الحاسم للنضال مع الثوار فيقول لها ها أنت ياجمرة روحي وسط رجال حلمك المقدامين العابقين بعطر جيفارا وهوشي من . ثم هناك تبدأ المأساة الحقيقية فوق الجبال ونوع الحياة البدائية التي تجمعهم بين الثوار وزحمة العيش والنوم مجتمعين مثلما نقرأ في بوحه الذي سال دون إرادةٍ أو رادعٍ للقريحة المنفلتة :
(حتى في حميمية الفراش یشاركه لحظات وجده وتماهیه في أتون الآخر، خمس نساء سوف یأرقن وتتبلل ألبستهن الداخلیة مع إیقاع الآهات وهسیس الأغطیة المنزلقة، وهمس احتكاك الجسدین الموغلین بأحشاء بعضهما ). وفي وحشة الليل لاضوء غير فوانيس تعلق في المفازات و رؤيا الموت أمامه وخلفه مرارا وعن كثب .
ينطلق سلام بحكاية الرائي المفجوع عن الضربة الكيميائية في فصل (يوم الحشر) وهنا نجد قوة البانوراما الدرامية وتسليطها الضوئي لاكما نسمعها من الآخرين ، رويُّ كما نهرٍ تراجيدي جارف ، لايمكنك أن تتمالك نفسك عن مامربه هذا الرجل بمعية رفاقه الثوار ورفيقة دربه الطويل . يستشهد ضباط في الحركة الثورية ومسؤولون وجنود . رفيقُّ آخرُّ يّعثر علیه منتحراً على ضفة الزاب ، والثاني وجدوا حقیبته القماشیة والجمداني، عالقین بأسلاكٍ عربةٍ معلقةٍ یعبرون النهر بواسطتها ، وثالثاً وجدوه مقلوباً قائماً في دغل السفح على رأسه المحشور بین سیقان أشجارٍ مشتبكة ..وآخرون وآخرون بميتات مرّوعة . ثم يستشهد رفيق آخر ( إبراهيم ) كان فيما مضى صديقا لأخ سلام الشهيد( كفاح) منذ سنين حيث كانوا في نفس الجامعة التكنلوجية ، وهذا الشهيد كفاح قد كتب عنه سلام روايته الموسومة ( إعدام رسام) وكانت رواية نثرية مكثفة عبارة عن عصارة الألم والرثاء من أخٍ على أخيه الشهيد . فيا لوجعك ياسلام مع هذه العائلة التي قدّمت الكثير ولم تحصد غير الألم والمواساة في هذا البلد المبتلى منذ قرون وقرون .
سلام يصاب بالعمى وتعطيب رئتيه من غاز الخردل ثم تلحقه زوجته مع الكثيرين من رفاقه. وهنا يبهرنا سلام في وصف العذابات والأعراض التي لايمكن تصديقها و المترتبة عليه وعلى اٌقرانه من جرّاء غاز الخردل الخانق . ولم يشفَ من هذا الجرم الخطير حتى وصوله الدنمارك طالبا اللجوء السياسي في بلد الحرية والعناية بالمرضى .
حرص سلام على أن ينقل لنا الأحداث بمصداقية مطلقة حتى لو كانت لاترضي بعض الأطراف ويتوجب دفنها في شآبيب الذاكرة . ففي فصل من الرواية يتحدث سلام بشكلٍ صريح وفي قلبه غصة من فداحة هذا الأمر عن حاجة المقاتلين للجنس وهم في وحدانيتهم فوق الجبل . فهناك رجل أراد التحرّش بإحداهن بطريقة مراوغة حينما تمرّضت في طريق الصعود للجبل فأراد حملها عنوة على ظهره وهنا تطفو الغيرة في قلب الرائي إنطلاقاً من القول ( انّ الاحتكاكات العفوية تقود الى احتكاكات مقصودة .. البرتومورافيا.. في روايته عذاب الحب) . تطرّق سلام بألم وغيرة عن هذا التحرّش والجوع الجنسي الذي يثير القيء ، مما جعل من سلام أن يقول ببالغ الحزن والأسى والتذمر في نفس الوقت ( هل في أعماق كل رجل ذئب ) . لكنها الحاجة للنصف الآخر وسط حشركبير أغلبهم من الرجال . وفي وصفٍ آخرٍ تنتقل البانوراما السينميّة المسيّرة بعيون سلام فترينا ماهي المهانة والذلّة والخضوع من رجل يتوسل رفيقته لكي تمنحه الجنس ولو لمرة قبل أن يموت . وهنا أرى المنحى من قبل سلام هو منحى الشفقة لحال هذا الرجل لا الذئبية التي تطرق لها أعلاه . تنقل لنا الكاميرا الروائية توسل هذا الرجل لإحداهن :
(أرجوك.. أرجوكِ .. لم أنم مع امرأة طوال عمري.. أرجوك.. مرة واحدة.. واحدة فقط وستبقى سراً إلى الأبد! ـ دعينيي أذوق المرأة قبل أن أموت.. أرجوكِ .. أرجوكِ .. عبدكِ أنا.. حذاءكِ أنا.. ارحمي حالي.. سأبلغ الأربعین.. أرجوكِ .. أرجوكِ) .
وفي عميق الروي بخصوص هذا المنحى وإثارته التي تشدك أن تستمر وتستمر في قراءة كل مشهدٍ يكتبه سلام بعصارة من دمه وعقله وسخطه ومبالاته من عدمها أو تمنيه بالخلاص أو البقاء فالحياة تستحق أن تعاش رغم كل تفاصيل قذاراتها وغربانها التي تحلّق فوقنا بإستمرار. وفي غمرة إنشدادنا لتفاصيل كل حكاية يـأخذنا الشرود لمعاني صراعات الخير والشر ومدى التمني الذي ألفناه في مراهقتنا ونحن نشاهد فلما معينا في أن نرى إنتصار البطل وهو في العموم يمثل الخير فكنا نتربص لإنتصاره على الشر ، وفي بئر هذه المعاني في شعورنا مع السيل الروائي الحزين والمتدفق لسلام نجده يفاجئنا من أن ذلك الرفيق المتحرّش قد إستشهد ولفظ أنفاسه الأخيرة . يستشهد متحسراً على ظل إمرأة . لكن بموت هذا الرفيق هناك ربما من إستراح من تحرشاته ، حيث يقف الرائي على الجثة ثم يبتعد مشمئزاً . أطل من جدید على الشهيد الممدد، فامتلأ بالغبطة مرة أخرى . ولكن هل هذه الراحة هي حقيقية مطلقة دون تأنيب ضمير؟؟ . هنا يقف ويعترف سلام بأن الغصة في حلقه فهذا الميت مهما يكن فهو رفيق دربه ونضاله وسط جدليّة مخيفة وخصوصا حينما يحتضر الإنسان دون عّوّدُّ يملؤون بيته أو مقام حتفه الغريب البعيد عن الأهل والخلاّن ، وهنا تأخذنا الرواية لمنحى الفلسفة الأخلاقية وماهية البحث عن صلب الإنسان ومعدنه ، ومكنوناته وغيرته في أخطرملابسات للأحداث المؤلمة التي تجري بما لاتشتهي السفن ، وهذه نراها مجسدةً في ماقاله الفيلسوف في قواعد العشق الأربعين ( شمس الدين التبريزي) مفادها : ( ليس من المتأخر مطلقاً أن تسأل نفسك ، هل أنا مستعد لتغيير الحياة التي أحياها ، هل أنا مستعد لتغيير نفسي من الداخل ) . ولذلك يتركنا سلام في أن نعتمد على مفاهيمنا فهو قد رسم لنا الخطوط الرئيسية للبوح بهذا الخصوص بدون هدفية أو وضوح معلن كي تبق يداه نظيفتان عفيفتان ونحن من سيكون هو الحَكم . هل نحن فرحون لموت الرفيق المتحرّش لأنه كان شريرا كما في الأفلام وبقي البطل الذي يمثل الخير ، أم ماذا ؟؟ وهنا قد أجاد الروائي سلام في هذه الحبكة التي أعطت لنا دروسا عن العلاقات الإنسانية في عسرها لا في يسرها. وهكذا هي الحياة ، للموت وقت وللحب وقت كما في بديعة الروائي الألماني (إيريش ماريا ريمارك) .
وتستمر الرواية في نقل موت المحاربين فوق الجبل وتساقطهم كما أوراق الخريف وهناك أحياناً نرى بقاء ورقةٍ ما في الغصن ترفض النزول ، فهنا نستطيع أن نقول أنها تتحدى الموت ، ترفض الخنوع لهذه الطريقة القسرية للموسم في إخراجها من الحياة بالقوّة والإجبار ، ويبدو أن سلام إبراهيم كما هذه الورقة العنيدة التي ترفض الموت فتبقى متمردة بعيون الفصول .
في النهاية ومهما كان المحارب منهمكا في أداء واجبه ، ساهراً لكي يؤدي المهام ببسالة عالية ، وفي خضم الألم والعمى من الغازات وأعراضها الجانبية بكل تفاصيلها الصغيرة والكبيرة ، لكنه في ساعات التعب المضني لابد له أن يجد إستراحتة بالقرب من رائحة حبيبته ، لذلك راح سلام يسألها عن التأريخ فتقول له بأننا في 5 ـ 6 ـ 1987 ، یوم یسمیه العرب نكسة حزيران 1967 فماهذا التزامن المخيف والمخيلة الإبداعية التهكميّة الساخرة بين الضربة الكيمياوية ونكسة حزيران .
ينتهي حلم سلام بالمدينة الفاضلة ويصبح ضباباً خردلاً على الشعب الكردي والثوار مثلما انتهى حلم سلفادور الليندي وبابلونيرودا وكل الرفاق التشيليين بالضربة الجوية الأمريكية على القصر الرئاسي التشيلي ومن ثم انقلاب بينوشيت وقد مثلت هذه القصة بفلم درامي جميل ( The house of the spirits) للروائية الشهيرة إيزابيل الليندي إنتاج عام 1993 تمثيل ( ميريل ستريب Meryl streep ) و(أنتونيو باندرياس Antonio Banderas) مع بطل الفلم ( (جيرمي آيرون Jermy Irons ) الذي إشتهر بتمثيله لرائعة فلاديمير نابوكوف (لوليتا) . وأسدلت الستارة على الحلم الثوري بدخول العسكرتارية من العاهرات واللقطاء والسفاحين بمشاهد لايمكن أن تتحملها النفس الضاربة في عمق الإنسانية والرحمة حتى يهرب الحالمون الى بلدان الشتات كما حال سلام إبراهيم ورفاقه عند مغادرة الجبل مخنوقين من الغاز والخسارة المؤلمة.
تنتهي الرحلة الخاسرة في معناها الحربي لكنها الرابحة في معانيها الإنسانية الهائلة. تنتهي بلقاء الحبيبين المصابين بالعمى،. وكأن الروائي يريد القول : لا إنتصار الا للحب والحب . تنطوي رحلة النضال والدراما الثورية المفجعة لتبقى في الذاكرة ، لكنه ربما وجد حلم المدينة الفاضلة عند وصوله الدنمارك وترك الأوغاد يتقاتلون حتى اليوم هناك في بلدٍ لم يشبع من دروس التخريب والدمار . وبقي هكذا في حبه الوطني والعاطفي منتظراً عودة (غودو) في رائعة صموئيل بيكيت هذا الرجل المسرحي الذي عاصر رموز الثقافة والفن والصعكلة في ذلك الزمن الجدلي والمهرطق ، برتراند راسل ، جيمس جويس ، كافكا ، كامو ، سارتر . كلهم في قائمة الإنتظار الذي لايأتي .. كلهم انتظروا غودو .. وفي الأخير تبين أن غودو هو الذي لايأتي .. ولذلك كان سلام بإنتظار أن يأتي إنتصار الثورة بمثابة المخلّص أو هو يأتي اليها حاملا زهور النشوة بالحلم الذي تحقق ، فكلاهما كانا ينتظر غودو ، ولكنها تبينت من انها مسرحية العبث واللاإلتزام فلا سلام إبراهيم عاد محملاً بزهوره ولا غودو المخلّص أتى ..ولم يأتِ . وهذه هي الطامة التي تؤرق الروائي سلام ، فهل هناك مزيد من الوقت كي يأتي غودو ، البطل الفاني والعادل ، أو هل ينتصر عقلنا ، أم ينتصر المنطق ، كلها أحاديث لاتؤدي الى القنطرة ، حتى ينتهي المركب السكران من التعب وسنين خدمته في عباب البحر فيرتكن مهدودا على السواحل ، ومامن غودو يأتي وهل سيأتي مخلّص الفقراء والمعدمين والثوار أم أنها وعودُّ كاذبة ؟؟ .
الروائي في سطور …
سلام إبراهيم باسمُّ في غالبِ طبعه الظاهر ، لكنه في حقيقة دواخله الباطنة يحمل من المأساة التي لايمكن للمرء أن يتصور من انّ هذا الشخص باقٍ وأعمار الطغاة تزولُ .
روائي وكاتب منذ السبيعينيات صدرت له أكثر من تسع روايات وخمسين قصة قصيرة ومنها في باطن الجحيم ، الحياة لحظة ، حياة ثقيلة ، سرير الرمل وغيرها . سجن أربع مرات وتعذب والتحق مرتين بثوار الجبل ، ثم هروبه الى إيران ومن بعدها إستقر في الدنمارك حتى اليوم .
في النهاية لابد من القول انّ ما قرأته في الرواية هو أدباً طبيعيا ونفسيا علاوة على الوجدانية والواقعية وكلها تمثل صوراً من ميول ذلك الزمن وأخلاقه ونزعات أهله . كما أنّ سلام إبراهيم أعطانا رسالة مفادها : أنّ من يفكر بوضوح يعبر بوضوح ، وأنّ واقعية الروي وتمييز الإتجاهات المولودة وتنويعها التي جاء بها مع سيناريو الوصف المموسق بنشيجه وأحزانه تمثل المنتج الإنساني الإبداعي المهيمن في النهاية ، لأن الطبيعة البشرية المتمادية في القتل والإستحواذ والتنكيل بالآخر ، بدون هذه الصناعة الروائية والفنية السينميّة ، ليست سوى كيان أصم لافحوى له ولا إدراكُّ يُستوعَب .
هاتف بشبوش/شاعر وناقد عراقي