(الإبداع شجرةٌ من شجرات الشوارع الدنماركية ، مهما شذبتها كلّ فصل ، تفرّعت وتكلّمت بلطف : عليك أيها الدؤوب ، تشذيبي من جديد .. كاتب المقال )…
مابين السياسة والوجدان والحب لابد أن يكون هناك عقلا بحرياً هائلاً قد إتسع في مداه ليحمل كل ما في سطحه وموانئه من السفن الآتية والغادية أوالتي هدّها التعب فارتكنت على السواحل بعد مضي أشواطا من العمل في عباب البحر . مابين السياسة والوجدان يوجد إنسان قد وضع روحه على راحتيه والقى بها في مهاوي الهلاكات بعدما إكتسب الكثير من الإبستمولوجي كي يعرف أن يحب الناس جميعا سواء على أرضه أو على أمصار هذه الخليقة الشاسعة فكان القاص لؤي هو واحد من أولئك الذين تعلّموا من الدرب العسير أن يكون متطلّعا الى المدنية والليبرالية أو الإنسانية المنفتحة التي جعلت له عقلاً تفكيرياً غير متصلباً ولاجافا كجفاف من هم على سلفية الإفكار الخطيرة . وأنا أقرأ ماكتبه الروائي لؤي في مجموعته القصصية الجديدة ( الدرهم الأخير) عنوان دراستنا هذه والتي أهداها الى الجيل القادم وكإنه يقول لهم لقد فاتت علينا نحن الجيل المحكوم بالعذابات والأسى والتشريد والنفي من حكومات الطغاة ، الا فإقتنصوا الفرصة جيدا أنتم ايها الجيل المستنير صوب التغيير الذي عليكم أن تصنعوه بأنفسكم قبل فوات الأوان . كما انّ بعض القصص تحكي عن الجيل الذي عاش حكم الطاغية صدام حسين ولذلك كانت الرسائل واضحة من قبل لؤي من انه عندما تكون الدكتاتورية واقعا تصبح الثورة واجبا مثلما فعلها يوما الطبيب البرتغالي الثوري اليساري(أماديو) الذي ناضل ضد الدكتاتور(سالازار) ومساعده الأيمن الفاشي (منديز) .
لؤي عمران هذا القاطن بين ضفتي الصحراء والماء الفراتي يرى الإنسان من أنه آخر الأشياء العابرة . آثر لؤي أن يبقى في العراق على أمريكا إنطلاقا من المقولة الرائعة للشهير ناظم حكمت ( وضعوا الشاعر في الجنة فقال أريد وطني) . في هذه المجموعة القصصية نرى الكثير من الأيقونات التي تشيرالى كستناء الثورية ، سنديان الإنسانية ، شمع التضحية ، مطرقة الوجع ، أروقة الحلم ، الهالة الشعاعية للورع ، بيارق الوطنية وغيرها . كل هذه مزروعة في لب حشانا وفي جذورنا الضاربة في العميق وفي عيوننا التي لازالت ناظرة لدروب التعلّم والإدراك الأكثر عمقا .
وأنا أتفحص كل سطر في سردياته أرى وكأن البيضة كسرت من الداخل فاعطتني أكسيرالحياة على عكس مما لوكسرت من الخارج فتعطيني شبح الموت . هكذ وجدته سلسا ناعما وجدانيا أكثرمنه سياسياً كما في إبداعه الأول الذي كتبتُ عنه . وجدته قد وضّف المعرفة الاّ أنه قدأضاف لها مسحة الأسطرة الشخوصية التي يتناقلها الأجدادأ والامهات فاستطعت أنْ أشم بكامل فتحتي أنفي مايدورفي عوائلنا وطريقة العيش التي لاتزال هي هي لم تتغير غير انّ خمر التقليد قد أصبح معتقا . قرأت جمالاته بدءً من قصة (وداعة الله) :
في هذه السرديةّ المتشعبة في أكثر من وجه ومعنى وضّف فيها لؤي ماقاله علي الوردي بشكل واضحٍ من انّ العائلة العراقية نشأ بها الشيوعي والبعثي والمتدين مع الحوار المضمّخ بإحتلاف مستويات الفكر والعقيدة حتى الإختلاف على الجبهة الوطنية في السبعينيات وكيف كانت فخاً مخططاً له أطاح بنا جميعا الى سحيق الدمار في الفكر وبعثرة تلاحمنا وزجنا في السجون وإهانة نفوسنا وشخوصنا . الحوارات داخل العائلة العراقية التي كان يسيطر عليها الآب بمثابة الكونترول إتجاه العراك المستديم في مابين الإخوة لكنهم إختلفوا عن أخوة (كرامازاوف) للروائي الروسي ديستويفسكي الذين تقاتلوا مع بعضهم فكرياً ومادياً.ولكن تعدد الأعراق والثقافات الطائفية يفضي في كثير من الأحيان الى الصراعات الداخلية التي لاتنتهي الاّ بالدم حتى يستقيم الحب الأبدي للاوطان اوالحب العاطفي وهذا لايمكن أن يبنى الا ببعض قطرات الدم وهذه الموضوعة تناولها الفلم الهندي (حسين ديلروغوبا) إنتاج 2021 للكاتب الروائي الهندي ( دنيش بانديت) حيث أن بطل الفلم يقوم بقطع يده فيسيل الدم العبيط في سبيل إنقاذ حبيبته من جريمة لم تفترفها وفي سبيل أن يستقيم ويستديم الحب بينهما . في نهاية المشهد البانورامي والمبكي لقصة لؤي عن دخول العراق في الحرب العراقية الإيرانية والتي اختصربها لؤي مجمل ماأصابنا من تحطيمٍ وهلاك في الرفض ألأخير على لسان الأب وهو يقول لزوجته (أم حيدر..وداعة الله للوطن كلهُ ..ليس أولادنا فقط). وهذاماحصدناه فعلا من دمار شامل وكثرة الأنفس الميتة التي فاقت الدراما الحزينة للروائي الروسي غوغول .
أما قصة الدرهم الأخير :
فهي من مغريات القصص من حيث المتعة وفي الإستمرار في قرائتها حتى النهاية لما فيها من معاني وتضاد مع ماقرأناه سابقا ( في شيلي ممنوع أن تضحك ) للشاعر السماوي الشهير (صادق الزعيري) التي غناها مطرب الشعب الراحل ( جعفر حسن) بينما في البوح المبكي هنا ( ممنوع أن تحزن وممنوع أن تصاب بالهستيريا ) . بلد لايمكننا أن نصف ما الذي يدور في دهاليزه وأقبيته . في هذه القصة التي حملت أدب السجون كما تناولها الآخرون لكن لؤي هنا كان بخيلاً في البوح أعني مكثفا للغاية فإختصر ما تعنيه السجون من موت أو غياب . كل مافي الأمر عائلة تزور إبنها المحكوم عليه بالإعدام بالرغم من أن لؤي لم يقل لنا من خلال سرده من أن السجين كان محكوما بالإعدام بل من خلال النتائج على الطريقة البريختية المسرحية التي نراها في نهاية مايقصده المشهد الدرامي ، نعرف أنه كذلك . في مقابلة هذا السجين من قبل أبوه وأمه وطفلته ، تقول الطفلة لأبيها الذي ضمها ضمة الحنين الكبرى بعد شوق وفراق في أول المقابلة فتقول له ( أعطني درهما) كما يفعلها جدي . يلتفت السجين لأبيه فيقول أعطني درهما لآعطيها أياه .. يعطيها أبوها الدرهم لكنه يقول لها :
( تذكري هذا الدرهم ، سيكون مختلفا عن كل ما أعطيتك أياه) …
حقا لقد كان لؤي متجاوزا هنا في مخياله وسبك ثيماته المكثفة لكنهاالهائلة في معانيها والواضحة بدون ترميز ولا حاجة بنا لفك معقد الرموز لما نقرؤه . من خلال هذا الكلام على لسان الأب ( تذكري هذا هو الدرهم الأخير) هذا يعني أنه هناك مشهداً آخرا سيحصل نوّه له لؤي بإسلوب سينمي جميل كي يعطي متعة المشاهدة او القراءة والإنتظار لما يحصل بعدها فهناك مثلاَ يقول إذ رأيت بندقية معلقة في الحائط بمشهدٍ خاطف هذا يعني أنها ستطلق النار بعد برهة وهذا ماحصل في الفيلم الجميل ( همنغواي كيلهورن) الذي يحكي قصة الروائي العالمي ( أرنست همنغواي مع عشيقته وزوجته الصحفية ( كيلهورن ) التي مثلت دورها الإسترالية ( نيكول كيدمان) مع الممثل المشاكس ذو الطبع الرجولي الخشن ( كليف أوين). رأينا البندقية معلقة ثم المشهد الذي تلاه هو إنتحار همنغواي بذات البندقية وهو في عمر الثامنة والخمسين . وكما قلت دليلنا من أن هذا السجين السياسي محكوما عليه بالإعدام من خلال الدرهم الأخير الذي أعطاه لإبنته وبهذا كان لؤي بارعا للغاية حيث أسدل الستار على المشهد المسرحي الضمني في القصة من خلال اللقاء العظيم الذي جمع الأب السجين بإبنته ومعرفتنا أن الدرهم الأخير يعني الأنفاس الأخيرة للسجين يعني الغياب الأبدي يعني إنتظار حكمه بالإعدام . أيضا من وجهة نظر أحرى خافية في القص أراد لؤي أن ينقل لنا رسالة من أن الشرطي الجلاد حين جلب السجين لعائلته وهو موثوقا قال لهم لاتتكلموا بما يغيضني . وبهذا يكون لؤي خط لنا الرعب بكل معانيه فراحوا يتكلمون بالألغاز السرية التامة إنطلاقا من معاني ذلك الجلاد العنيف في فيلم ( الهروب من الشاوشنك) للمثل (مورغان مان) ورسم تلك الصورة من قبل المساجين الخائفين الذين قالوا ( حين دخل علينا الجلاد ورآنا في صخب فوضى .. قال : أعرف طريقة إسكاتكم ) وهنا ايضا كإن لؤي وكإنه هو الآخر خائفا ولايريد أن يكتب في قصته ويقول من أن هذا الرجل محكوم بالإعدام . بالمحصلة الكل خائف من الكل في ظل حكم البوليسية وجمهورية الرعب ، تلك التي سقطت على يد الأجنبي وحوّلت الحياة الى رعبٍ آخرٍوقتلٍ آخر وموت جديد مثلما نقرؤها في قصة (الحب بين الماء والنار) :
تعني بين الحب والموت ، بين النهروالقنابل ، بين الجسروالنابالم بين نسيم الفرات والسنة نارالطائرات ، حتى تحطمت قنطرة الوصل الرابطة بين صوبي السماوة الكبير والصغير حين قصفها الأمريكان بقنابلهم المروّعة . إنها ملحمة الجسر البريطاني الكبير التي مات بهاالخليل والحبيب والكاره والغاضب والرجال والنساء ومن فقدوا شجيرات نسلهم . إنها ملحمة الأشلاء التي كانت من لحم ودم وأنفاس العبير الإنساني النقي قبل دقائق معدودات . بوح في غاية الآلم ، شعرتُ به مع عبرة في الحنجرة والخاطر ، هو ذلك التفريغ ذو التأثير الكبير على كل نفسٍ تعرف مامعنى الحيف ومامعنى الحزن العميق الذي لايمكنه أن يندثر الاّ بعد كسر الذاكرة أو محوها عن ِشآبيب الحب الأبدي . وهذه لايمكن أن تكون فلدي صديق معروف في السماوة ( يحيى سعيد) فقد زوجته وأطفاله جميعا بهذه الضربة الأمريكية الإنتقامية الخاطفة التي قطعت نسل عائلته من الجذور . لكن من حتميات الأمور هو أن الحب يستمر ويتجدد ولايمكن القضاء على الشعوب بهذه الطريقة الهمجية لآن (يحيى سعيد ) إستمر في حياته وحبه لوطنه مع إمرأة أخرى إحتضنته وأكمل معها مشواره في الحب لتبقى الشعوب بتناسلها وإستمرارها من جديد ، هذا يعني إنتصار الحب بكل وقائعه وأناشيده على المجنزرات في كل الأوقات والدهور .
حتى وصلت القرار الأخير ( القرارالصعب ) :
——-
هاتف بشبوش /شاعر وناقد عراقي