عبد القادر مواطن بسيط يعيش على الهامش، معجب بالفريق الوطني لكرة القدم، ويحفظ أسماء لاعبيه عن ظهر قلب. إذا لعب ضد أي فريق يأخذ يوم عطلة، ويستمتع بمشاهدته في الملعب أو التلفزيون. وعندما يلعب جيدا ويربح، يصفق له بحرارة، ويظل يتحدث عنه في البيت والمقهى والعمل، وأحيانا يراه حتى في المنام. وإذا خسر يشتم المدرب واللاعبين الذين لم يظهروا بمستوى لائق.
عندما تتوقف الكرة، يهتم قليلا بالسياسة. انشغل هذه الأيام بتتبع الحراك في وطنه. أغرته شعارات الحرية والديمقراطية ومحاسبة المسئولين وبناء وطن جديد ، يستعيد فيه الناس كرامتهم، ويعيشون في رغد ورخاء. فرح مثل أي مواطن عندما تنحى الرئيس المُقعد، وتم اعتقال العصابة التي سيطرت على خيرات البلد، وصدرت في حقها أحكام بالسجن.
سمع بأذنيه، وشاهد بعينيه الرئيس الجديد، يؤكد في حوار مع صحفي من التلفزيون المحلي، بأنه سيسترجع الأموال المنهوبة. قال مع نفسه هذه هي (ترجليت)*. كم حجم هذه الأموال بالدولار؟ لا أحد يعرف. في أي مكان توجد؟ لا أحد يعرف. سعادة الرئيس لم يصرح بأي معلومة حول ذلك، لكنه لمّح بتعبير من وجهه، وحركة بيديه إلى أنها تفوق العشرين مليار دولار بكثير. وقال بأن لديه خطة، واعتبر الأمر سرا، سيحتفظ به حتى يسترجع هذه الأموال المسروقة، ويستثمرها في تنمية البلد، وتشغيل العاطلين. ثم مرض الرئيس. أذاعوا بأن المسكين أصيب بالفيروس الجديد، ونقلوه للعلاج في ألمانيا.
غاب أكثر من أربعين يوما، حتى شك الناس في الأمر. ولما عاد إلى البلاد استقبلوه بفرح. بعد وقت قصير خرجت العصابة من الحبس. وضاعت الأموال المنهوبة، وضاعت معها أحلام البسطاء من الناس.
لم يهضم عبد القادر ما وقع. فجأة تذكر القصة التي سمعها منذ زمن بعيد في أحد الأسواق، وهو طفل صغير رفقة والده، كأنه يراها الآن تجري أمام عينيه.
رأى الحكواتي يتوسط الناس، ويطلب منهم أن يقتربوا، وهو يروي:
ـ كان يا ما كان في سالف العصر والأوان.
توقف وطلب من الناس أن يصلوا على المصطفى، فردد الناس خلفه:
ـ الصلاة والسلام على رسول الله .
وضع أصبعه وراء أذنه موحيا بأنه لم يسمعهم جيدا. رددوا مرة أخرى بصوت أعلى من الأول :
ـ الصلاة والسلام على رسول الله.
ثم استأنف الحكي من جديد:
ـ كان يا ما كان عالم من العلماء، لم يجُد بمثله زمان، شرب من بحر العلوم والأديان، وما فاتته نقطة أو فاصلة إلا وألمَّ بها. سمع بورعه وتقواه ملك الملوك، هارون الرشيد، حاكم الأرض التي لا تغيب عنها الشمس، وطلب حضوره بين يديه. بحثوا في مساجد بغداد حتى وجدوه. قالوا له:
ـ مولانا الخليفة يطلب مجيئك في الحال.
وضع كتاب الله على يمينه، ولبس نعليه، وسوّى عباءته، وتوكل على الله، وتبعهم يفكر في الأمر الذي يجعل الخليفة يُرسل في طلبه. مرّ من فناء قصر الخلود المليء بالجواري والغلمان، وكأنه في مدينة لا تقع إلا في الخيال والأحلام.
دخل قاعة السلطان الذي يحكم بأمر الله. انحنى وحيى وسلم، وبقي وافقا حتى أذن له بالجلوس. قاعة يتوسطها كرسي الخلافة، وهو يعلو أفرشة من حرير خاصة بالحاشية ورواد المجلس، يحيط بها أعمدة من الأبنوس، والجبص المنقوش. والسلطان لا تخطئه العين بلباسه المرصع باللآلئ والجواهر والمرجان. من يدخل قصر الخلود لأول مرة، يظن بأنه اجتاز الصراط المستقيم، وأصبح بين أهل الجنة. بعد الترحاب، وتبادل الكلام، وذهاب الدهشة عن العالم واستئناسه بالمجلس، مهد السلطان للموضوع:
ـ تعرف أيها الفقيه الجليل، بأن أحب الناس إلى الخلفاء هم العلماء. بنصائحكم ودعمكم ونور علمكم تستتب الأمور، وتزدهر الأمم، ويعم العدل والرخاء، لهذا رأيت أن أطلب منك أمرين، أرجو أن تقبلهما معا ، أو على الأقل أن تختار منهما واحدا. قال العالم: اللهم اجعله خيرا. قال الخليفة: لن ترى معنا غير الخير . الأمر الأول أن تتكلف بالقضاء، والثاني أن تعلم أبنائي. وقد اخترتك لهاتين المهمتين، لما بلغني عنك من زهد وغزارة علم وحسن أخلاق.
أحس العالم بالحرج، فهو لا يرغب في منصب، ولا جاه، ولا صحبة السلاطين وحاشيتهم. فرفض الطلبين معا بأدب ولباقة.
سكت الحكواتي عن الكلام المباح، وجمع قليلا من النقود، وطلب من الناس الصلاة على الحبيب. ردد الناس خلفه بصوت عال:
ـ اللهم صلي على المصطفى الحبيب.
وهم ينتظرون رد فعل الخليفة، أغلبهم جمح به الخيال بعيدا، واعتقد جازما بأن رأس العالم لا بد أن يُقطع، ويُعلق في ساحة بغداد ، حتى يكون عبرة لمن يتجرأ على رفض طلب السلطان:
ثم تابع الحكي من جديد:
ـ قال الخليفة ما دمت لا ترغب في أي من الأمرين فلا بأس عليك. لكن في هذه الحالة لدي طلب ثالث، ولا أظنك سترفضه.
سأل العالم: وما هو يا مولاي؟
أجاب الملك: أن تتناول طعام الغذاء معي.
قال العالم في نفسه هذا الطلب أهون الشرور. سيتناول الطعام، ويذهب إلى حال سبيله، ويا دار لم يدخلك شر.
أمر الخليفة طباخه بأن يهيئ لهما أكلة “من ذاقها لن يفلح”.
تناول العالم طعام الغذاء صحبة السلطان، ولزم بعد ذلك القصر، وقبل تولي منصب القضاء، وتعليم أبناء الخليفة.
قام عبد القادر من مكانه لإطفاء التلفاز، وهو يردد مع نفسه:
ـ الفقيه الذي كنا ننتظر بركته دخل إلى المسجد بحذائه!
المعجم:
ـ (ترجليت): المروءة
مراكش 05 يناير 2021
قصة جميلة تنتقل بالقارئ من زماننا هذا إلى زمان ” هارون الرشيد ” لنخرج بنفس النتيجة حينما يتعلق الأمر بعدم الوفاء بوعود
” المسؤولين” كيفما كانت درجاتهم في مناصب الدولة أو حتى درجاتهم العلمية.
شكرا جزيلا على هذه المشاركة القيمة أستاذنا الفاضل.