بدأت الاستعدادات على قدم وساق لعرس نوال الأخت الصغرى لاحميدة. لم يبق سوى أسبوع واحد. بالأمس أطلقوا (العَرّاضات)*.
الوضع المادي للأسرة وللعريسين لا يسمح بكراء قاعة للأفراح، أو منح إطعام الضيوف لممون حفلات، كما هو الشأن بالنسبة للأسر الميسورة.
فاطمة تكفلت بمهمة مرافقة العروسة مع أمها لاختيار وتحديد ثمن الحلوى والبسطيلة* والنكافة* والجوق. الأسعار جد مرتفعة، وعليهم دفع العربون قبل ثلاثة أشهر. في بداية الأسبوع الأخير بدأن في تفقد أين وصلت الاستعدادات.
احميدة ووالده تكفلا بإعادة صباغة الدار، وفرش وسطها، وتخصيص غرفتين لتناول الطعام، وتجهيزهما بالموائد والكراسي، إحداهما للنساء في الأسفل. وسط الدار المفتوح على السماء سيخصص للنساء، والغرفة المطلة عليه للعروس، وغرفة مجاورة للجوق. أما الرجال فسيصعدون إلى صالة الضيوف، والأطفال يمكنهم متابعة العرس من الشرفة المطلة على وسط المنزل، والسطح سيخصص للطبخ.
اتفقت فاطمة مع احميدة على تقديم هدية لأخته، وهي عبارة عن دملج من الفضة كانت قد اشترته قبل الزواج، ومجموعة من الصحون المستوردة قدمتهم لها كهدية النصرانية التي تعمل معها في الرياض.
في النصف الثاني من يوم السبت عادت فاطمة رفقة العروس من صالون التجميل. وقد قصت شعرها، واستعملت شيئا من الماكياج. لبست (التكشيطة) والحزام والعقد والدملج. أنقدتها ليلى صديقتها من كراء ملابس أقل جودة وجمالية. أحست بان شكلها وهي تنظر في المرآة سيجعل منها نجمة العرس. تذكرت ليلة زفافها حين انتابها مزيج من الفرح والحزن، وهي تخرج من البيت الذي قضت فيه حياتها منذ ولادتها. شعرت بحنين غريب اتجاه أمها، وتمنت لو ارتمت في حضنها، كما كانت تفعل وهي طفلة.
بدأ الضيوف يتوافدون على المنزل، والشمس تميل إلى الغروب، والحرارة تنخفض بشكل تدريجي.
في ظرف وجيز تحول وسط المنزل الى ما يشبه حديقة زهور تتدفق بألوان قوية، وأخرى باردة، أو متداخلة مع بعضها البعض. وجوه رغم انبساطها، لم يستطع الماكياج والفساتين الجميلة إخفاء آثار الألم الذي تسبب فيه وضعها الاقتصادي المأزوم، لكنها جاءت لتسرق لحظة فرح من مخالب هذا الزمن الموحش.
بعد صلاة العشاء بدأ الرجال يتوافدون على البيت. وجدوا في استقبالهم الأب وابنه البكر احميدة.
ثم علت أصوات ونغمات (الطبالة) مؤذنة بقدوم أهل العريس. في البداية تجند الفتيان والفتيات للرقص على إيقاع (الطقيطقات)*، والنساء يتمايلن برؤوسهن وأجسادهن مع الموسيقى.
يخرج احميدة بين الحين والآخر لتناول كاس من الخمر مع أصدقائه من أبناء الدرب المتجمعين بالقرب من المنزل، وبعضهم يجلس فوق الدراجات التي تركها الضيوف في الخارج أو على كراسي من الدوم. اليوم سيحتفل بعرس اخته الصغرى على طريقته الخاصة. مثل هذه اللحظات لا تتكرر إلا مرة واحدة في الحياة.
فجأة قدمت العيساوية. امرأة في الاربعينات ترتدي سروال جينز وقميصا أبيض. يرافقها شاب مفتول العضلات يحمل حقيبتها. يبدو انه حارسها الخاص أوصلها الى البيت وعاد أدراجه. سلمت على احميدة، ورافقها إلى الغرفة التي يوجد بها الجوق. أشعلت سيجارة (مالبورو). غيرت ملابسها وتناولت كأسين من (البلاك اند وايت)*. ثم خرجت الى المنصة الصغيرة المخصصة للجوق. تمَلّت قليلا في وجه الحاضرات، وهمست في أذن الكمانجي (الحامونية ـ تزوج ما قالها لي). بعد دقائق صدح صوت رخيم قادم من أعماق ليالي الحصاد في الأرياف، يوقظ شيئا ما غامضا في الضيوف:
“أنا ما نويت فراقه هو اللي سخا بيا
تزوج ما قالها لي حالفة حتى نبالي به
أنا اللي عطيته شعري حتى خبلو لي
تزوج ما قالها لي حالفة حتى نبالي به
أنا اللي عطيته العلقم حتى شربو ليا
تزوج ما قالها لي حالفة حتى نبالي به
أنا اللي عطيتو ظهري حتى هرسو لي
تزوج ما قالها لي حالفة حتى نبالي به
أنا اللي عطيتو قلبي حتى جرحو لي
تزوج ما قالها لي حالفة حتى نبالي به”
أغلب النساء وقفن يرقصن. والبعض منهن يتابع الإيقاع برأسه ويديه. جرّت فاطمة إحدى صديقاتها إلى وسط المجمع، ورقصت رفقتها بفنية عالية اثارت انتباه الجميع. بما فيهم احميدة الذي اقتحم الحلبة وغرم على زوجته 50 درهما. ورقصا معا والتصفيقات تتعالى من كل جانب.
ذهبت المطربة إلى الغرفة، ودخنت سيجارة، وتناولت كأسين، وعادت نشيطة بعد استراحة خفيفة. في الوصلة الثانية أدت الاغنية الشعبية المشهورة (مول الكوتشي)*، وصدحت بصوت يتدفق حنانا كأنه قادم من أبعد نقطة في جبال الأطلس :
(ومول لكوتشي ..
وجمع كل شي ..
بضاض يرشي*
محال إي ريبو دوك لحيوط
إي بان المربوط*
آمولاي براهيم .
وطير لجبال .
سبعة رجال)
تفاعل والد احميدة مع الصوت القادم من وسط المنزل، وخرج من الصالة ورمى بورقة نقدية من فئة 100 درهم، وأومأ لاحميدة بان يعلقها للمطربة.
(حالفة بِحْلوفي ..
حتى نعذبو كيما عذبني
وحالفة بحلوفي ..
حتى نعذبو بعينيك تشوفي
وامول لكوتشي ..
وجمع كل شي ..
بضاض يرشي)
غرمت عليها فاطمة 50 درهما، وهي تلعن في نفسها فاتورة الماء والكهرباء. عندما تردد الشيخة (المطربة) اسمك أثناء الغناء شيء ما غامض في الجينات يجذبك لتغرم عليها، ولو كان معك أكثر لدفعت أكثر.
ظلت فاطمة واقفة ترقص من حين لآخر، وتُرقص معها في كل مرة إحدى صديقاتها.
وتابعت المغنية وفاطمة ترقص بجانبها.
(أعطيوني صباطي بغيت نمشي* ..
بضاض يرشي
وامول كوتشي ..
وجمع كلشي ..
بضاض يرشي ..)
نزل والد نوال ووالد العريس والعدول، ودخلوا الغرفة التي تجلس فيها العروس. كتبوا العقد. التُقطت صور للذكرى. زغردت أم احميدة رفقة (النكافات).
بعد منتصف الليل بدئوا في تقديم العشاء للضيوف . ينتقين النساء ليتناوبن على الجلوس عشرة الى كل طاولة. في البداية وُضع طابق (البسطيلة) بين كؤوس المشروبات الغازية. يتذوقنه ويتبادلن الحديث. وقبل الانتهاء من هذه الوجبة أخرجت بعضهن أكياسا بلاستيكية صغيرة، ووضعن فيها قطعة إلى جانب الحلوى لأبنائهم الذين لم يحضروا معهن.
في الشوط الثاني قدموا لهن صحنا كبيرا ، يتضمن أربع طيور من الدجاج المحمر، وبعده الفواكه.
مع الانتهاء من تناول العشاء بدا الجزء الثاني من الحفلة. خرج العريسان، وجلسا في المكان المخصص لهما في وسط المنزل. ألبس كل منهما الأخر خاتم الزواج، وتبادلا شرب الحليب والقبل بخجل. تم رفعهما في العمارية تحت ايقاع (الطقيطقات). وبعد التقاط صور لهما، قامت العروس لتغيير لباسها. ثم جاء دور الهدية. عرضت (النكافة) ما تضمنته الأطباق التي جاء بها أهل العريس. وارتفعت الزغاريد بين الحين والآخر. واستأنف الجوق نشاطه. غرم العريس ورقة من فئة 100 درهم. رقصت فاطمة والعرق يتصبب من جبينها .
بدأ الضيوف من الرجال وبعض النسوة في الانصراف .
استمر الغناء والرقص الى طلوع الشمس. تناول من بقي وجبة الفطور. القهوة بالحليب والحريرة. خرج العروسان، وركبا سيارة أحد الضيوف وسط الزغاريد والأهازيج، واتجه بهما صوب بيتهما في حي الفرح. سقطت دمعة من عين نوال، وهي تقبل والدتها وتبتسم.
لم يصدق احميدة بأن فاطمة رقصت بكل هذا الفرح. غمره سرور عميق وهو يرى زوجته تتخلص من همومها اليومية مع سلسلة الموت (الخبز والماء والكهرباء والبقال والجزار وقسيمة الشقة).
يشعر دائما بأنه محظوظ، ومرضي الوالدين لأن امرأة مثل فاطمة أصبحت زوجته. شيء ما غامض امتزج بنشوة الخمر يشبه الحب دفعه الى الاقتراب منها ثم وشوش في اذنها:
ـ ماذا أفعل لكي تحبني امرأة جميلة مثلك؟
قالت له:
ـ ألست زوجتك؟
قال: ولو!
قالت وهي تبتسم:
ـ لا شيء سوى أن تكون رجلا .
نزل جوابها كقطعة ثلج على قلبه. وماذا يملك غير هذه الرجولة التي ورثها عن والده وهو حي ؟
…………
المعجم :
ـ (العراضات) : نساء من قريبات العروس يقمن بإيصال الدعوات للضيوفـ (الطقيطقات) : أهازيج شعبية تؤديها فرق مختصة.
ـ (البسطيلة) : من أشهر الوجبات المغربية وأفخمها ، تُهيأ باللوز والدجاج، أو باللوز والسمك، وتقدم في الأعراس والمناسبات.
ـ (النكافة) : ثلاث نقط فوق الكاف سيدة تتكفل بمظهر العروس ولباسها ، وتغييره مرتين أو ثلاث في العرس.
ـ (البلاك أند وايت): نوع من الويسكي الممتاز.
ـ (الكوتشي) : الحنطور / (بضاض) : الحب بالأمازيغية / (يرشي):يُضعف ويفكك / (الحيوط ايريبو): الجدران تتحطم / (المربوط) : العاشق /(صباطي): حذائي / طير الجبال : ضريح الولي الصالح مولاي ابراهيم / سبعة رجال : الأولياء الصالحين السبع المدفونين بمدينة مراكش .
مراكش 08 غشت 2018