إلى (راهبات التقدمة)
إذا كانت رواية (شامان) قد نجحت في تدريبنا على الطيران الحر. فأن رواية(جحيم الراهب) تستنفر أنظمة الوعي الجمعي على كسر النسق، والتمرد على طمأنينة الحيز ومواجهة الحياة بالتشارك في فضاء الهواء الطلق والشمس الصريحة لا الشمس التي تنفذُ بضعة ٌ مِن أشعتها عبر كوة ٍ
(*)
لم يعد العنوان ظل النص ولا محض شكل اجرائي وظيفته تأطير النص لأن العنوان ليس وصيف النص أما مَن هو دليل المؤلف بين نجديّ : اكتشاف العنوان/ اختيار العنوان؟ خصوصا وإن لكل منهما اشتراطات وخواص تتصل بزمن كتابة النص ونوع العامل المثير للعنوان وطبيعة النسق اللغوي. فأنه في الآونة الاخيرة تخلص العنوان من جهوزية المعنى النصي التي كان يضعها على مائدة القارئ. وقد يسأل أحدنا متى حدث ذلك؟ فيكون جوابنا حين تحرر العنوان من براءة الذئب مقابل منح القارئ منصة ً لتأويل العنوان جرى كل ذلك بمؤثرية التنمية المعرفية لدى القارئ والمؤلف. من هنا نرى أن العنوان ينفتح على سلسلة مِن الدلالات بحكم تعدد القراءات ونموها وتجددها. وفي العنوان نلمس الكمون النصي مرمزاً ومتشابكا مع غيره من عناصر الرواية لتشييد منظور الكاتب وعقيدته العامة التي تعني رؤية الكاتب والعالم : بشهادة أستاذنا محمود عبد الوهاب/ ص7/ مقداد مسعود/ العنوان لبس وصيف النص/ مقدمة الطبعة الثانية لكتاب (ثريا النص) للقاص والروائي محمود عبد الوهاب/ 2021/ دار المكتبة الاهلية – العراق – البصرة
(*)
يعتبر عنوان(جحيم الراهب) من العنوانات الصادمة !! وهذه الصدمة ستكون فضولا معرفيا تدفع القارئ أن يفعّل قراءة ً تلصصية ً لمعرفة نوع الجحيم الذي يكابده الراهب، وفي الغالب سيكون ظن القارئ بمفردة (الجحيم) نحو الملجوم الجنسي، فهو قارئ لا يملك غير هذه الموجهات في زمن (…….)
وهناك قارئ آخر سيكون متأملا في وحدة الأضداد وصراعها
الراهب ————– الجحيم
الراهب هو منتج الطمأنينة المطلقة التي يكرز فيها ويعلنها وينثرها في قلوب المخذولات والضالين . إذن كيف يكون الحال إذا كان للراهب جحيما!! فمن ينظف العائذين به من الألم والإثم ويحممهم بالماء الطاهر المطهر ويجعلهم ماثلين أطفالا حالمين بأخدارٍ من اللازورد ؟
(*)
بعد ثريا النص يستوقفنا الإهداء (إلى صديقي الرّسام عدنان.. أينما كان) ربما نشفع للمؤلف لو كانت الرواية غير صادرة في عصر التقنية الافتراضية لأن المسافات لم تكن مربوطة بشبكة عنكبوت لا يمتلك نعمة النسيان. لنعد إلى الإهداء.. لو قرأناه هكذا (إلى صديقي الرّسام عدنان) فهو إهداء كامل لكن.. مؤلف الرواية شاكر نوري يراه ناقصا، لذا اكمل الإهداء ( … أينما كان) هل انتقل المهدى إليه ، إلى جهة غامضة ٍ؟ وهنارأت قراءتي أن الرّسام عدنان، قرين الصقر (شامان) يظهر ثم يتمرد على ظهوره ويتحرر من خلال وجوده خارج عبودية التغطية؟
(*)
بعد هدب الإهداء يستقبلنا المؤلف شاكر نوري بمصابيح من خارج النص لها وظيفة علامات المرور التي تعين السائق أثناء السير. المقتبس الأول ينتسب للقرنين التاسع عشر و… العشرين والانتساب محكوم بعمر القابس وهو ألبير دُو بو فورفيل 1862- 1939 .. نص المقتبس (إذلال الإنسان ليس عُنصراً ضرورياً لعزة السّماء…).. تلتقط قراءتي موجها فتهدي به :
(1) أن الرواية تتناول تصحيح/ تصليح المعادلة المغلوطة بين السماء والأرض. لأن هناك من جعل أقفية البشرية حدبات على شكل سلالم توصله إلى سماء يتخيلها على وفق نرجسيته
(2) المكتوم في المقتبس هو لفظة (دين) والبوصلة ُ هي (عزة السماء)
(3) الراهب في الرواية يرى أثمن رأسمال في الحياة هو الإنسان
وهذه الرؤية تكسّد الطريقة الراسخة التي اتفق عليها وكلاء الديانات
ورؤية الراهب جوزيف يعلنها المقتبس الثاني في الصفحة نفسها وهو يسبق الأوّل تاريخيا :(لن يكون في وسع التاريخ أن يُدرك أنّنا سنضطرُ إلى العيش مُجدّدا في هذه الظلمات، بعد سطعت الأنوارُ ذاتها/ كاستيليو (فن الشك) – 1562)
(*)
الجحيم في الرواية ليس حيزا بمقاسات الراهب جوزيف. بل هو جحيمنا كلنا حين نكون رهينة العقل الدائري الذي لا ينتج سوى الخضوع والإحباط.
(*)
تشتغل الرواية على محورين هما :
(1) الوطن
(2) الدين
وكلاهما يحتاجان تدوير سرد فعلي في مدياتهما . هناك من يرى ثمة ضباب أيديولوجي يلف تاريخ الديانات وليس الإيمان الديني: وحده يقف حائلاً دون تمزيق هذه الغشاوة الأيديولوجية المنسوجة في الغالب من المثالية اللاتاريخية بل يقف وراء ذلك أيضاً عامل من طبيعة نفسية :هو : النقص في الإشباع النرجسي. وبالطريقة هذه تحصل أوروبا على اختراع ماض مثالي ومن جانب آخر أن تراث المسيحية الأولى تم تطويعه لعملية تغريب وأمثلة.
(*)
المسيحية: دينٌ جذوره في السماء ينتسب إلى نص أول مطلق ينزع إلى تأسيس نفسه في عقيدة قويمة تتقاطع مع الفهم الفلسفي الذي يؤكد أهمية البحث الشخصي عن الحقيقة، وهكذا يحدث التصادم بين الفلسفة اليونانية والديانة المسيحية. فالديانة تؤكد الخلق من العدم والتجسيد الإلهي. فالله في المسيحية هو وحده الخالد الكامل، أما ضمن الفلسفة اليونانية فالكون غير مخلوق وهو بلا تاريخ وغير خاضع للمتغيرات ضمن المنطق الأرسطي. وإذا كان البرهان هو منطق العقل فأن المسيحية تؤكد أن النبوة خطاب من وجدان الفرد إلى وجدان الجماعة وهكذا تكون حجة الإيمان راجحة لأنها فوق حجة العقل وهم يرون أن الفلاسفة سراق الأنبياء.. في حين ترى الباحثة ابكار السقاف أن الفلسفة الرواقية نقلت اللوغوس الهيراقليطسي إلى الكلمة الرواقية ورأت في الكلمة القوة التي تحل في جميع أجزاء المادة المتكون منها الكون وأن علل الوجود هي علة طبيعتها السرمدية، إذ لا فناء في الكون وإنما المشخصات الظاهرية ليست إلا تجدداً للمظاهر المتباينة، وأنه إذا كان الوجود تؤلفه وحدة وليس الإله والوجود إلا موجودا واحداً وإذا كان الإله هو القوة الحالّة في جميع أجزاء المادة، ولعلل الوجود هو علة عاقلة طبيعتها السرمدية الإفناء فإن هذا العقل والوجود غير قائم إلاّ بعقل فيه منبث، هو نفسه(الكلمة) ومن ثم فيقينيا أن الكلمة هي الله.. وهكذا نلاحظ أن (الكلمة) قفزت أوسع من قفزات الكنغر من مبدأ في فلسفة هيراقليطس إلى السموات العُلى. وصارت الكلمة هي الإله نلمس في ذلك أن رواقية زينون وأشياعه قد مهدت للمسيحية (في البدء كانت الكلمة) ..
(*)
بمرور الزمان توقفت مسيحية الرسل والحواريين والمبشرين الجوالين وغدت مؤسسة مسيحية وأساقفة وكنائس وسلطة دينية هرمية التراتب وصار الأساقفة منشغلين بقانون الإيمان وليس الإيمان ثم مع القرن الرابع الميلادي صارت المسيحية : ديانة دولة بتوقيت تنصر الحاكم قسطنطين : هذه المقدمة السردية التاريخية تحاول رصد ما كان يفكرّ به الأب جورج في(دير الايقونات)..
(*)
نواة الرواية : مساءلة عوامل التعرية والتأكل التاريخية ماهي الأسباب التي تحول الأصل الشاسع المهيمن حضاريا ، إلى أقلية مضطهدة ضمن الديانة المسيحية؟ وبشهادة الأب إلياس(هل نسيتم أننا كنا امبراطورية لم تكن الشمس تغرب عنها؟ والكنيسة الآشورية كانت محراب الجميع، وقبلة الشرق/87 ) هل لأن الآشوريين تمردوا، على ثوابت المسيحية ؟ لأن الكنيسة الآشورية (لم تسع يوماً إلى تزيين الصّليب أو بذر الزهور، بل تسعى من أجل إنقاذ أرواح تعيش في هذا الدير المتواضع، ماذا يريدون أن نفعل ؟)وقف الفاتيكان ضدهم وجرى خطفهم من قبل مافيات ما بعد 2003.. ربما كان الأب إلياس يفكرُّ يصوت مجروح.. لكن التصريح المدوي الذي أطلقه الأب جوزيف. جعل الفاتيكان يتهمه بالهرطقة لأن ما قاله الأب جوزيف يشكل اتهاما صريحا للكنيسة الأرثوذوكسية ،حين يعلن( إننا لسنا مسؤولين عن جرائم محاكم التفتيش/ 88 ) وما قاله الأب جوزيف دعمهُ الآباء الآشوريون داخل الدير وخارجه، وما فعله الأب هو تحريرهم من بطالة التأمل إلى خصوبة الزراعة
وكدح العمل المنتج .
(*)
المناضل الشيوعي جورج حين صار الأب جورج لم يتنصل عن شعلة النضال فيه بل فعّل فيها تدوير السرد من النضال الأممي إلى الدفاع عن الملة الآشورية وذلك مشروط مع تثوير الدين المسيحي (لا بد من بعث روح جديدة في المسيحية قبل أن تلفظ أنفاسها../118) وسبب التثوير: أن الأرثوذكسية أغلقت أبواب العقل المسيحي
(*)
من جانبي كقارئ منتج أرى أن المؤسسة الدينية تكون دائما مأخوذة بحصر المعنى بين يديها . ومن جانب آخر أرى أن تاريخ الدين شأنه شأن تاريخ الأسطورة وتاريخ الفلسفة والفن والأدب ليس هو تاريخ فكر ومنتوجات المفكرين والفنانين والأدباء بل كل هذه التواريخ تحت مؤثرية نمو القوى المنتجة وتطور المجتمع واتساع الصراعات الطبقية ولهذه القوى الأولية الفاعلة كما يرى ذلك جورج لوكاكش/ تحطيم العقل / ترجمة إلياس مرقص/ دار المكتبة العلمية/ بيروت/ 2019
(*)
في القرن السابع عشر وهو عصر النهضة الأوربية فيه استعمرت أوربا أمريكا وارتكبت مذابح كبرى ضد السكان وبِلا سبب ٍ وأصابوهم بأمراضهم وحين انتقل الغزاة الاوربيون بنفس السفن لكي يستعمروا الصين أصيب المستعمر الاوربي بصدمة تلقٍ : أن التسلسل الزمني للأحداث التي تتحكم بتاريخهم وثقافتهم يختلف كليّا عن سرديات أوربا في القرن السابع عشر وفي عصر النهضة الأوروبية بقيت السرديات المهمة تتحكم بالتاريخ والثقافة فلم يخرج الأوروبيون في ذلك القرن من قصة الخلق والطوفان، آدم وحواء، خروج موسى من مصر هروب مريم ويوسف بالطفل الذي اسمه يسوع .. تتجسد الصدمة كالتالي (في الصين لا وجود لتلك السرديات مع ذلك تتسم النظرة إلى الزمن بقدر كبير من العقلانية في الصين التي قدمت أهم مثل عن تنوع العالم وتعدد ثقافاته ../ 185/ فالح مهدي/ صوات العالم / قراءة نقدية في ثقافات العالم الروحية/ بيت الياسمين/ مصر/ط1/ 2021 )
(*)
ثمة روايات تنتهي بجعل باب السرد مواربا وهناك من تجعل السرد دائريا.. فأن رواية (جحيم الراهب) تجعل السرد ينمو على شكل صليب. من خلال سردين :
(1) السرد الافقي المنشغل باللحظة العراقية الساخنة
(2) السرد العمودي المغروز في التاريخ العريق للعراق الآشوري
(3) خير من يمثل تقنية رواية (جحيم الراهب) هو الحضور المزدوج للأب إلياس فهو (يُبهر الرّهبان والرّاهبات بكراماته في الوجود في مكانين في آن واحد، في البرية والقلاّية…/86 (ويظهر في زمنين 1949 تاريخ الرهبنة وحين يعود ويبحثون في السجلات فيجدون في تاريخ النياحة مكتوب خرج ولم يعد وحين ينظر إلى التقويم المعلق فإذا به العام 1649 للشهداء!!
(4) .. ومن حكايتين يتصنع جحيم الراهبين في راهب هو هما : جوزيف وأسحق. ومن خلال طابقين توازن الرواية بين العلو العمودي الأفقي لحركة الطائرة التي فيها الراهب أسحق وبين مندرج هبوط ذاكرة أسحق في أيامه السالفة ومكابداته في سجن القلعة بدمشق وما قبلها ثم الوصول إلى بيروت في أيام خرابها الدموي
(*)
يستقبلنا صوت بضمير المتكلم مع أول سطر في الصفحة الأولى من الرواية
صوت ٌ جازم ٌ بنسق ثلاثي :
(1) لم أتنكر بجبّة الراهب من أجل خداع أحد
(2) ولم انخرط في دين ٍ جديد لكي أؤذي الآخرين من البشر
(3) لم ألجأ إلى هذا العالم من أجل الاهتمام
حين تتمعن قراءتي في هذه الوحدات السردية الصغرى المجزومة ب(لم)
وفي الصفحة الثانية من الرواية مع السطر الاول يكتمل المربع المجزوم لغويا في قوله المتكلم
(4) لم أكن انتهازيا عندما استهواني العيش في الدير.
أليس الجمل الاربع المجزومة هي سلاح المتكلم لتبرئة نفسه مما هو فيه
من متغيرات حادة؟ إذا كانت الإحالة التكرارية الرباعية ملظومة بخيط (لم) الجازمة .فأن الحرف المشبه بالفعل (كأن) سيلظم لنا إحالة تكرارية ثلاثية من خلال عينيّ أسحق أثناء صعوده إلى الطائرة في بيروت إلى روما يخبرنا أسحق عن تساقط رذاذ الثّلج واختلط الضوء بالظلام ساد صمت ثقيل على الرّكاب المسافرين المتعجلين ثم يبدأ النسق الثلاثي في ص21 :
(1) كأنّهم كائنات ٌ مذعورة ٌ تريد التّسابق مع الطيور والرحيل عن الأرض
(2) كأن الجرائم البشرية لا تُقترف إلا على الأرض وحدها فيما غرقت رؤوس الأشجار والمدرجات الإسمنتية وعربات جّر الحقائب، باللون الأبيض.
(3) كأن كفنا ً ضخماً، أو خيمة ناصعة البياض، افترشت لكائنات، فأصبحت هلامية الأشكال، لا معنى لها.
هذه الوحدات السردية الصغرى الثلاث التي يهيمن عليها بياض ٌ صلد
ينزع عنها السارد أسحق مكياج التشبيه والاستعارة ليخبرنا(رحلتي شبه رحلة في أعماق الظلام / 21)
الأب المسيحي هو في الحقيقة مسلم اسمه اسحق وبشهادته (أختاره لي أهلي بمصادفة محض ومن دون أية دلالة /10 ).. ويبقى التساؤل قائما : ماهي الاسباب التي تجعل رجلا مسلما يلوذ بدير رهبان على قمة جبل؟ هل ارتكب جريمة ً؟ أو من المطلوبين للسلطة لأسباب سياسية ؟ ما الذي جعله يمكث سبع سينين ؟هل يبرر فعلته (سعيتُ إلى إبعاد ضوضاء العالم وصخبه عنّي، وتقمصتُ سير أبطال الرافدين الغابرين..).. في ص94 سنكون مع بداية لجوء أسحق إلى الدير، وهنا نلفت النظر: أن فن التأجيل السردي يتقنه بمهارة الروائي شاكر نوري فهو يعيدنا إلى الصفحة الأولى من الرواية حين يخبرنا رجل ٌ مسلم أنه أصبح نصرانيا ولاذ بالدير، لأن الاخرين هم الجحيم الذي اكتوى به !!
(*)
قبل الديانات السماوية بنى الأشوريون حضارة عريقة في العراق وكلتا لهم فضائل حضرية كبرى على العالم أجمع وفي القرن التاسع عشر بالكاد توصل علماء الآثار إلى حل ألغاز الكتابة الآشورية وكان لدى الدولة الآشورية فن الكتابة السرية فهم يعون قول الشيء يساوي الحيازة على شيء نفسه، فكانت لنخبة الحاكمة شفرات الكتابة السرية / 318/ فن الكتابة السرية / الحياة اليومية في بلاد بابل وآشور/ تأليف جورج كونيتو/ ترجمة وتعليق سليم طه التكريتي وبرهان عبد التكريتي/ دار الشؤون الثقافية / بغداد/ ط2/ 1986
(*)
ينقطع البث السردي، لدى المتكلم وتدخل قراءتي إلى النص من مفصل آخر يعلن عن نفسه من خلال العنوان التالي ( مفتتحُ معجزة الآباء الآشوريين)
وينوب عن المتكلم الأول : السارد التاريخي لنكبات الآشوريين . فقد تعرضوا للأذى من كل الجهات : الدولة العثمانية وشبهة الشيوعية لأنهم وفدوا من روسيا وهناك الأذى الأعظم من الملل والنحل المسيحية، ذلك لأن تاريخ المسيحية الأولى (هو إلى حد كبير تاريخ الهرطقات وتاريخ الصراع فيما بينها، وبالتالي تاريخ الانشقاقات والحرمانات الكنسية وبديهي أن تنصر الدولة لم يضع حداً فوريا لظاهرة الهرطقات. بل إن القرن الرابع، شهد تطور هرطقات بالغة القوة والشعبية منها النسطورية التي انطلقت شرارتها الأولى من القسطنطينية،ثم انتقلت ما بين سورية ومصر قبل أن تنتهي إلى منفاها الدائم في العراق وفارس/ 43/ جورج طرابيشي/ مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام ).. الآشوريون مسيحيون ينتسبون إلى المذهب النسطوري نسبة إلى البطريرك نيطوريوس الذي حكم عليه مجمّع أفسس بالهرطقة وعوقب بالتحريم الكنسي، فرُفضوا في الكنائس، لذا اضطروا إلى إقامة شعائرهم الدينية في منزل كاهنهم
(*)
في ص19 ينقطع بث تاريخ درب آلام نساطرة آشور. ويهبط بنا السرد من أعالي (دير الأيقونات) إلى مطار بيروت في سنة من السنوات الدخان واللهيب والقنص يقودنا اسحق المتكلم الأوّل في(جحيم الراهب) ويخبرني كقارئ للرواية (قبل صعودي إلى الطائرة، أعطاني الأب سامر مظروفا من الاوراق :هدية من الأب جوزيف/ 19 ) وهناك خبر ينفع قراءتي للرواية
حين يخبرني (لأنني سأكون ضائعا في متاهة وسأفقد بوصلتي في شعاب الدير.. أتخبط في أسراره وألغازه، رغم السنوات السبع التي أمضيتها بين جدرانه، كنتُ واثقاً أن الأب جوزيف ترك لي شيئا مُهمّا أقرأه../ 20 )
هنا نكون مع مزدوج يتكون من الأب جوزيف والأب أسحق وبشهادة أسحق عن الأب جوزيف (أخذ يدفعني إلى الأمام في كل لحظةٍ، تاركاً بصماته على روحي، وامتزجت قصتانا امتزاجاً لا فكاك فيه، وأصبحنا في عيون الآخرين، توأمين وقرينين لا ينفصلان، نرى وجهينا في مرآة واحدة/29 ) فكلاهما إيمانهما بنكهة الشك. وبشهادة أسحق : أن جوزيف( لايزال يعتبرني مسلمّا حتى بعد ما حصلتُ على الدرجة السابعة في الرهبنة، معتقدا أن الماضي لا يمكن أن يُمحى بجرة قلم../ 134)
(*)
المخطوطة التي استلمها أسحق عن طريق الأب سامر بمطار بيروت.. وما يهم الأب اسحق ليس السيّر الذاتية لحياة الآباء الآشوريين فليس الجانب الممسرح في حيواتهم يشغل اسحق (بقدر ما أبحث عن أعماق الإنسان التي لا يسير أغوارها البلهاء الحمقى/ 20 ) إذن أسحق يبحث عن الملجوم السردي، لذا سيقوم اسحق :
(1) ترتيب السرد
ويتجسد في قول أسحق (بدأتُ ألتهم تلك الأوراق وأحاول ترتيبها على شكل فصول، متسلسلة في ذهني رغم تداخلها وبعثرتها، وهذا ما أشبع فضولي)
(2) الآباء الآشوريون لحياة كل منهم فصلان: فصل خارج الدّير وفصل داخله
لكن أسحق من المعرفيين غير المصابين باليقين، لذا يخاطبنا ( لكنّني كنتُ واثقا من أن ما يُكتب ليس هو كل شيء، بل محاولة لتجسيد حياة ما على الورق الصقيل الأبيض..)
(*)
كلاهما في المكان الخطأ. الدير هو الهبوط الاضطراري لهما : الأب جوزيف والأب أسحق. وكلاهما ينتظران اللحظة الموائمة لتحرر من رتابة طقوس العبادات ..وبشهادة أسحق (أخترتُ اللحظة التي أتخلص فيها من هذا العبء الثقيل، لأّنني وبكل بساطة ٍ لا أرغب في تكرار الطقوس عينها إلى ما لانهاية../ 9) واللحظة تأخرت سبع سنوات، حتى وافق الفاتيكان على قبول مسيحي آنشوري للدراسات في الفاتيكان وستكون أطروحة أسحق عن النساطرة المسيحين. اسحق يغادر الدير للدراسة العليا وقبل مغادرته بأيام يخبرنا عن مصير الأب جوزيف (لم أكن الحزين الوحيد في الدّير فقد أستيقظ الرُّهبان والرّاهبات، مذعورين على خبر مغادرته الدير بين نظرات الريبة والشك، والفراغ الشّاسع الذي تركه، كأنهم فقدوا أبّا حنونا، وصديقا مخلصا../ 29) مفتاح شفرة اختفاء الاب جوزيف لا يملك سوى قرينه وتوأمه الأب أسحق.. امضى جوزيف ثلاثين عاما في الدير ناسكا واعظا متعبدا ثم رأى ما هو أهم وهمسه فقط في أذن قرينه (شعوري بتأنيب الضمير يجعلني أسارع إلى لّم شمل عائلتي الصغيرة : سيسيل واسكندر../ 28 )
(*)
العلاقة بينهما : جوزيف وأسحق تعيدني إلى رواية (كلاب جلجامش ) والأخوية الاسطورية بين جلال العائد بجثة صديقه أنور من باريس إلى العراق.
(*)
يتناوبان السرد أسحق وجوزيف وكلاهما يستعملان ضمير المتكلم وذلك ربما يعني : أنا آخري وثالثهما السارد الموّثق لجانب من سيرة الأب جوزيف من ص119 إلى ص131. ثم يعود صوت أسحق وهو في الطائرة يطلب من ناتاشا المضيفة موسيقا فيفاليدي كونشرتو الفصول الأربعة. وفي منتصف ص133 ينتقل سرد المونتاج إلى زمكان يخص التحاور بين جوزيف وأسحق
(*)
الرواية مشطورة بين سماء وأرض. السماء تعني الدير على الجبل والسماء تعني الطائرة التي يجلس فيها أسحق وتتداعى الازمنة في ذاكرته.(كنت أتحاشى نقاشات الرّكاب وثرثرتهم، كنت غارقاً في بحر ذاكرتي../ 45)
الأرض : تعني الحياة ذات البعد الواحد وتعني ما تحت الارض : السجن الذي مكث فيه اسحق لسنوات.
(*)
فضاء الطائرة سيدفع ذاكرة أسحق إلى التداعي نحو أمكنة وأزمنة وأشخاص ووجوه وعلاقات اجتماعية (مرّت سنوات حياتي الأربع عشرة الأخيرة التي أمضيتها بين ميناء بيروت وسجن القلعة ودير الايقونات كشريط خاطف، لم أتذوق فيها نكهة الفصول، واصفرار الأوراق وتفتح الزهور، تعاقبت فصول
وامتزجت بحياة الرهبان والراهبات../ 60 )
ولا يقطع التداعي ويعيده إلى لحظة الطائرة سوى المحاورات القصيرة بين الأب أسحق وبين المضيّفة الروسية
(*)
إذن الرواية تتحرك ضمن حزمة من المثاني
(1) الأب جوزيف والأب أسحق
(2) داخل الدير / خارج الدير
(3) الأرض / السماء
(4) الدير في الأعالي/ المراعي في السهول
(5) البحر / السجن
(6) الزي الكهنوتي / التحرر من الزي الكهنوتي
(7) الفاتيكان / الآشوريون
(8) أسحق بين الوفاء للأب جوزيف والعودة إلى حياته ما قبل الكهنوتية
(9) الرّكاب على الطائرة(72) / وتلاميذ المسيح (72) على حد قول الأب المعتوه إيلي
(*)
حين تقول دليلة لحبيبها أسحق : أي جنون أن تعود إلى جحيم العراق/ ص61 تستعيد ذاكرتي كلام الزوجة الأمريكية لزوجها العراقي جلال الذي قرر أن يكون جنّازا يعود للعراق بجثة أنور صديقي الحميم الذي توفي في باريس (أنت ذاهب إلى بلد هجرته بملء أرادتك وها أنت تذهب إليه بإرادة الآخرين / 18 )
(*)
كلاهما ليس بدوافع دينية قصدا روحانيات الرهبنة : جوزيف راعي غنم متآلف مع الناس ورفاهية الطبيعة، أرادوا اللصوص سلبه ونهبه فقتل أحدهم
فكان الخلاص هو اللجوء إلى الدير. أسحق هرب من جحيم الحرب العراقية الإيرانية، فتلقفه جحيم الصحراء ثم جحيم سجن القلعة بدمشق ثم بيروت ومنها إلى (دير الايقونات) .. وبعد سبع سنوات سيغادر أسحق الدير ليقدم أطروحته بالفاتيكان وأثناء هبوط الطائرة في روما يخلع جبة الكهنوت
ويدخل روما ليواصل ما انقطع في باريس أعني سيعود رساما عبقريا
وجوزيف سوف يتسلل هو وزوجته سيسيل ويترك دير الايقونات !!
أليس في ذلك خذلان مزدوج لكل الراهبات والرهبان . خذلهم أسحق أكاديميا
وخذلهم جوزيف قائدا عاشوا معه ثلث قرن من الزمان والحق كل الحق في قول الاب شربل وهو يخاطب أسحق قائلا ( يا أب أسحق، لا ندري ماذا يحدث في الدّير لو غادرنا الأب جوزيف، لا ندري إلى أين تأخذنا الرياح. ألا ترى أن سفينتنا ستغرق من دون ربان؟ / 173 ) في هذا السؤال يكمن الفعل الإستباقي لفعلتهما : جوزيف وأسحق
*شاكر نوري/ جحيم الراهب/ شركة المطبوعات للتوزيع والنشر/ بيروت/ ط1/ 2014