اضاءة من اعلى التل ج2- كتاب التجربة الخلاقة (1) : بحث في روح الحداثة واعمق اسبابها
يقع الكتاب في 284صفحة , يتناول فيه البروفسور س. م. بورا (استاذ الشعر في جامعة اكسفورد )اهم الاسباب التي ادت لنشأة الشعر الحديث في مقتبل القرن العشرين وبعد فصل مطول ومكثف يتعمق فيه بما اسماه بالتجربة الخلاقة يختار في الفصول السبعة الاخرى اهم الشعراء الذين تميزوا بالتنوع الاسلوبي والحداثة وهم <كافافي وابولينير , مايكوفسكي وبوريس باسترانك , اليوت , لوركا , وروفائيل البرتي ). صدر هذا الكتاب سنة 1949 .في الفصل الاول يستنتج المؤلف بان فترة النصف الاول من القرن العشرين كانت مرحلة تجريبية لمجمل الفنون كالرسم والنحت والعمارة والموسيقى فقوانينها التي كانت مقبولة في القرن التاسع تعرضت للتشكيك بعنف .وقد تمسك بعض الشعراء بتلك القيم الا ان امهر الشعراء ممن تركوا بصمة ساطعة قد تخلوا عن تلك المفاهيم ..وكان على الشعراء الجدد ان ينتظروا ليتمكنوا من اقناع الاخرين بتقبل مفاهيم مغايرة ..ويقارن المؤلف بين شعراء القرنين فالرومانتيكيون منذ انطلاقتهم كانوا على دراية ويقين تام بالذي يريدون تحقيقه وبالشكل الذي يتصورون الفن عليه لكن شعراء الحداثة لم يكن سهلا عليهم ايجاد صيغة للتعبير عن آرائهم رغم طموحهم المشترك فقاموا بتجارب عدة وتوصلوا لنتائج مختلفة الاشكال. يرى المؤلف ان حركة الشعر الحديث تاريخيا تمثل رد فعل ضد العقم الذي انتهى اليه الشعر قبلها , فهذه الموجة الابداعية لا تختلف عن اية حركة ادبية في التاريخ , ذلك بديهي , فحين تهرم الطاقة التعبيرية لاي فن فلا بد ان ينبثق البديل ,مثل هذه الهزة حدثت في القرن التاسع عشر فقد تحول الشاعر ييتس من اسلوبه المغرق في الاحلام متمثلا بقصيدته (المياه الظليلة ) الى الاسلوب المركز المجرد من اية زخرة في اعماله المتاخرة , وقد شكلت المفردة الصعوبة الاولى فقد تجردت بالاستعمال الطويل عن دلالتها النوعية , ورغم كل ما تم انجازه في الشعر فقد غلب الاتجاه لكل ما هو نبيل ومتجانس نحو منطقة التجربة عبر الشكل المنتظم والجرس الموسيقي القادر على ابتعاث شعور معين في النفس , لهذا وجهت تهمة الشذوذ لشعراء الحداثة لان تخطي قيم جيل 1910 كان من الصعوبة بمكان ..فحين نشر اليوت مجموعته الاولى \بروفرروك وملاحظات اخرى \ لم يستسغ القاريء العادي منها سوى قصيدته <لا فيغلياشي بيانغ > لتميزها بالسلاسة والبساطة التي تذكران بالشعر الفيكتوري , لقد تقدم الشعراء المحدثون من حيث انتهى الرمزيون … الرعشة الرئيسة برأي المحدثين هي تلك القوة الغامرة التي ليست وظيفتها ان تمنح الاشراق الفكري , بل ان تجذر الاحساس بحياة اشد دفقا . عنصر اخر تميز به الشعر الحديث هو الصدق بالتعبير وهو لا يعني ضد الزيف انه الصدق الكلي أي تقديم التجرية بكل تعقيداتها بلا تبسيط او ترتيب,فالحالة الخلاقة تهجم عليه بقوة حازمة مسيطرة فتنقض على طرائق تفكيره المعتاد وترفض التقولب بالقوالب المالوفة .هنا تنشط الاحاسيس والفكر معا .فيضطر الى ابراز شكلهما الموحد .. يرفض المؤلف بورا ما اتى به التصويريون الروس (ان الصورة هي النفثالين الذي يحفظ النتاج من عث الزمن ) لان الصورة في الشعر الحديث اصبحت اكثر التحاما في بنية القصيدة من أي وقت سابق فالمحدثون يبدلون صورهم مع تطور الموضوع ويراكمونها في جملة واحدة فالشاعر التشيلي نيرودا حين اراد ان يعبر عن تقززه من الحياة اتى بصور توحي بمختلف احاسيسه دون ان يحتاج الى التاليف بينها في صورة واحدة :
((هناك طيور بلون الكبريت , وامعاء مخيفة
تتدلى من ابواب البيوت التي اكرهها
هناك اسنان زائفة منسية في اقداح القهوة
هناك مرايا
لا بد ان بكت من الحزن والخوف
هناك مظلات في كل مكان , وسموم ,وسرر بشريسة )).
وفيما اقر شعراء القرن التاسع عشر بمواضيع جميلة واخرى غير جميلة فقد نسف المحدثون هذا المفهوم فالروح الخلاقة ذات مجال غريب شاسع والاهم قابلية الموضوع التخيلية .يقر المؤلف بان الحداثة لدى بعض الشعراء قادتهم الى التطرف المتاتي من الرغبة الملحة بالتجديد فقد ركز البعض على القيمة الانفعالية والايحائية للكلمة فقد تبلغ غايتها عبر جرسها ويضرب مثالا على ذلك بالشاعر الايطالي \الدو بالازيتشي \
<تري تري تري
فرو فرو فرو
ايهو ايهو ايهو
اوهي اوهي اوهي >>.. المشكلة في (ما وراء المعنى ) انه محدود التاثير انه ينجح فقط بالحالات النادرة للتعبير عن مجال الاحاسيس المبهمة .
قلب المحدثون التكنيك فبدلا من اخضاع الموضوع للشكل اخضعوا الشكل للمضمون فتخلوا عن القافية والايقاع المنتظم .
لقد تمكن الشعراء المحدثون ان يحولوا العنصر الفكري الى مهمة شعرية خالصة .
سوف يحاول المؤلف اختبار هذه التحليلات التي استنبطها على عدد من الشعراء المعاصرين وقد اعدهم الاشد مهارة وتميزا .. وربما لا نتفق مع بعض ارائه لكننا نقر بان كتاب <التجربة الخلاقة >.. سلط اضاءة دامغة على مساحة واسعة من الشعر الحديث وان لديه احساسا باهرا بتفهم الحركات الشعرية عبر التاريخ .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كتاب < التجربة الخلاقة > \دار الشؤون الثقافية العامة \الطبعة الثانية .. بغداد 1986. ترجمة سلافة حجاوي