من هذه العلاقة الحوارية الرائية للحروف، باعتبارها فيضاً مثخناً بالمعاني وليست مشهداً بصرياً وحسب، تنطلقُ تجربة الشاعر الصوفيّ المبدع أديب كمال الدين في بحثها عن السفر الروحي لإشراقات الحرف ووظائفه الايحائية. وقد نجح في خلق نموذجٍ شعري له واقعه الداخلي الخاص الذي لا يشبه سواه في المحيط الشعري العربي الحديث، ولاسيما في علاقات التناص التفاعلية والتداخلية مع سنن وآفاق الحرف واتخاذها شاهداً ومرآة تمَّحي على سطحها الفوارق بين الوجد الصوفي والإبداع الشعري.
أديب كمال الدين قامة شعرية سامقة تنتمي لجيلٍ شعري مهم ومتميز (جيل مابعد الستينيات) لا مراء في كونه قدَّم نخباً شكَّل منجزها الابداعي حضوراً فاعلاً في ترسيخ قيم حداثة النص الشعري في المدونة العراقية. ولكنه وعلى الرغم من كونه أحد أبرز شعراء هذا الجيل، ممن اعتنوا بعوالم التجريب الشعري بحثاً عن قيم المغايرة والاختلاف، إلا إنَّه نأى بنفسه ودواوينه الاثني عشر عن مجمل إيقاعات وجدليات قضية التجييل وما رافقها أو أفضتْ إليه من نزاع أو مناكدة. لقد تخطّتْ تجربته المؤسسة الثقافية السلطوية وما لها من فخاخ مبتذلة، وابتعدت عن مسارات الاضطراب السياسي لإنَّها لم تختفِ وراء أية جهة حزبية أو آيدلوجية، ولم تجعل من الشعر وسيلة فظّة للنفعيِّات والتكسّب.
تكشف رحلة الشاعر كمال الدين مع نتاجه الغزير، الذي حافظ على نكهته ومنهجه في مواسم شيوع الفوضى والزحام، عن مزاج شعري خاص يتجلى بحضور مكثف لنهجه الحروفي، نهج جعله يتخلَّق رويداً رويداً منذ مجموعته الشعرية المهمة (تفاصيل /1976) ليبدو فيما بعد فكرة مهيمنة تأخذ على عاتقها حراثة أرث تساؤلات الانسان وقدم محنه الوجودية، وتحتدم داخل وحداتها ونسائجها الشعرية أذرعُ الواقعي والمتخيَّل وصور صراعات الأضداد في مساحة مركزها الإنسان/مواضع ضعفه/هشاشته وعطبه، بما يتيح لتأويلات النصوص فرصة التمدد في مساحة اللامرئي والتماهى مع مؤشرات وأساليب الصوفي في بناء أحواله ومواقفه.
الحروف بفيوضها المجازية وتجلياتها اللغزية هي مفتاح قراءة ما تضمنه منجز الشاعر من خصوصيات فهي الفردوس الذي شيَّده لنفسه، جعله ملاذاً لصمته العارف، وستاراً للحفاظ على كيانه داخل أزمنة استعرت بالكراهية والقمع فحلَّ فيها الخراب. ولا أحسبُ قارئاً يتصوَّر مخيلة شعرية حديثة طفحت بمتون رمزية الحرف كمخيلة كمال الدين، حيث اتخّذ من سعة وانفتاح الإرث الصوفي مرابطاً لتوثيق وبناء الحدث الشعري ولاسيما في الانجذاب للوميض الروحاني للحرف، فقد بزغ في مجمل نصوصهِ كدلالة شاخصة استهدفت ادخال المتلقي في شبكة علاقات ومشاريع معرفية لتأويل ايقونة الحرف.
أيّها الحرف
في اللحظةِ التي ستدخل فيها إلى المسرح
عارياً كسمكةٍ في الماء،
ستُفاجَأ بالحروفِ التي تحيطُ بك:
حروف مرتزقةٍ وأوغاد،
حروف مجانين وأدعياء،
حروف متصوّفةٍ، عشّاقٍ وأنبياء. (أربعون قصيدة عن الحرف، وصايا 68)
تتخذ الكتابة عند كمال الدين معنى رمزياً في محاولتها إضاءة مناطق العتمة، وفي تعبيرها عن همٍ وقلقٍ وجودي عميق يسعى لإعادة صياغة دور الواسطة بين خطابين متعاليين: شعري/فلسفي عبر التنافذ والانصهار في مكونات الفكر الصوفي واستعارة ما له من مواقف أو مدوّنات وقناديل اعتقادية متوهجة، وهذا ما يتضمنه قوله: “أنا أكتب القصيدة بمقاسات الروح التي تعرف عمق الكلمة ومسؤوليتها الإلهية والأخلاقية”1. ولذا يتسرَّب لنصه نوع من المعرفة الاستكشافية الشفافة والخاصة في قوانينها وأقيستها، وثمة أسباب ومكوِّنات بنيوية منحتها ميزة الخصوبة بالدلالات والتجدد في حجم المفارقة والانزياح الشعري. ولعلَّ أهم هذه الاسباب، وهي من الخصائص المائزة لنصوصه ولاسيما في مجموعة (أربعون قصيدة عن الحرف)، بساطة السلوك اللغوي في اختيار المفردة وفي تركيب الجُمل ومنطقها الإسنادي المتدفق ببنى وأساليب رائقة تبتعد عن التعقيد أو التعاضل والغموض في التعبير الشعري برغم ارتيادها لمناطق الغموض كخاصية في طبيعة التفكير الشعري. ثمَّ الاختزال والتكثيف في استعمال الأنساق الرمزية، التي وسَّعتْ من ميدان التجربة الشعرية وشيِّدتْ أكواناً جدلية توترت داخلها تقابلات ثنائية ذات ثقل روحي/فلسفي أهمها: ماهيِّة الوجود وشيئيَّته، وقد اتّجه بالمتلقي فيها نحو مهاوٍ متخيَّلة ثاوية في البنى والدلالات.
يقدِّم كمال الدين في الأربعين قصيدة عن الحرف استراتيجية شعرية توفر الإقتراب من تجربة موشومة بالاشتغال على إثراء وتوليد الصور الرائية، المبتهجة عنوة ببهاء معاولِ اللغة/الحروف وسلطتها المتنكرة لكل السلطات، صور تحلِّق في أكوان وآفاق رحبة بحالة من فناء وجداني تختلج داخله مشاهد لا موصوفية هذا الحرف:
حين أراد الحرفُ، ذات يومٍ، أن يلعب
جاءَ إليّ
فوجدني ضائعاً أكثر مما ينبغي
فتركني.
وذهبَ إلى حبيبتي
فوجدها أكثر بدائية منه
وأكثر عرياً منه
فتركها.
ثم ذهبَ إلى الله
فلم يستطعْ كشف سرّ غموضه وجبروته.
ثم ذهبَ إلى النبيّ
فلم يستطعْ كشف سرّ زهده وصمته.
ثم ذهبَ إلى الوليّ
فلم يستطعْ كشف سرّ صومه
وصلاته وتسبيحه.
ثم ذهبَ إلى الصوفيّ
فلم يعجبه بحثه عن المجهول.
ثم ذهبَ إلى المجهول
فالتقى بالموتِ الذي صفعه على أمّ رأسه
صفعةً واحدة
حوّلته إلى قطعةِ فحم.
جاء الأطفال
فكتبوا بها على الحائط أسماءهم.
وجاء العشاق
فكتبوا بها على الأشجارِ أحلامهم.
وجئتُ أنا
فأمسكتُ بالحرفِ المتفحّم
وكتبتُ قصائدي السود التي لا تكفّ أبداً
عن الرقصِ والهذيان! (تناص مع الحرف ص 43)
ينهل النص السابق عناصر بناء هرمه الدلالي وصوره الشعرية من عوالم مشدودة لأبعاد وانتماءات الخطاب الحواري الصوفي التي تشف عن حسٍ فلسفي وتحاول منح مفردات مجردة مثل (الضياع، البدائيِّة، العري، الجبروت، النبي، الصمت، المجهول، الحائط، العشاق…) معان مختلفة عن معانيها الموروثة، تدفع المتلقي للبحث عن سياقات إبداعية لكشف خلفية مقولة الحرف وكوامن قدرته لأن يقود لكل هذا التعدد فيما يفضي إليه من حدوس وعلاقات. وقد توخَّى الشاعر تطويع وتجسيم النوازع الصوفية في العلاقة مع صورة الحرف ومقاماته لتحويله الى ملكوت رمزي تقف وراء بناه المنظورة بنى وأسفار أخرى، قادت الأنا العارفة نحو معارج التسامي لأنَّها الأنا الوحيدة المدركة لقيمة الحرف والقادرة على استنطاقه بقصائد/حروف لا تكفّ عن الرقص.
لقد صاغت احتفالية الحرف وشعرياته في تجربة كمال الدين فرادة من نوع خاص تمثّلت على مستويين أساسيين: يتجسد الأوَّل في افتراض الحرف روحاً سحرية تجوس مسارب اللغة، وإشارة كبرى تختزل جميع الاشارات وتنخرط للتنقيب في خلفية العلاقة الكامنة وراء بعدين باطنيين الأوَّل للحرف بذاته والثاني للوجود برمته. أما المستوى الثاني فيقع فيما خلقته ايحاءات الحرف وأطره التناصية من تماس أو تجاور مع وظائف رمزية وطقوس تعبيرية يصفها قائلاً: “للحرف طقوسه في روحي، إنَّه يولد لديَّ ولادات شتّى، مرّة أراه صيحة غضب، ومرّة صيحة جمال، وثالثة صيحة من أجل الحرية الضائعة، مرّة أتعرَّف عليه كطلسم عجيب لا يمكن الافصاح عن أسراره، ومرّة أتأمله حتى أتيه تماماً، أذوب في انحناءات شكله وأضيع في محتواه”2
في أعماقي
طائرٌ أبيض
يسقطُ مذبوحاً في أعماقِ المسرح.
وفي أعماقِ المسرح
صراخٌ وأنين وثيابٌ ممزَّقة
وفي أعماقِ الثيابِ الممزَّقةِ حلم
وفي أعماقِ الحلمِ نهر
وفي أعماقِ النهرِ صبيّ
وفي أعماقِ الصبيّ قلب
وفي أعماقِ القلبِ قصيدة
وفي أعماقِ القصيدةِ حرف
وفي أعماقِ الحرفِ نقطة
وفي أعماقِ النقطةِ متصوّف
وفي أعماقِ المتصوّفِ إله
إله ينظرُ إلى طائري المذبوح بعينين دامعتين.(أعماق ص 54)
يترك النص السابق مجالات تأويلية رحبة لتوليد دلالات افتراضية للحرف حيث شكَّل نواة للبؤرة التخيلية، واقام صوراً ذهنية متراكمة أججّت تساؤلات شعرية متعددة الحوامل والمشارب. وخلَّفت بنية تكرار المفردات فضلا عن المنطق النحوي للجمل رابطاً دلالياً/ايقاعياً وثيقاً أسهم في تقوية وترسيخ التجليات الرمزية لدائرة دلالة الذات العارفة. فقد تعالقت مكونات الذات في النص بصورة تنبني أثناء تفسخها والعكس صحيح أيضاً، إذ بدأ تشكيلها من عودة ضمير المتكلم في مفردة (أعماقي) وتتابع طبقات المعنى بالحفاظ على لازمة شبه الجملة الخبرية يعقبها المبتدأ. وقد تمحورت جميع تشظيات هذه الأعماق على مركز جذب واحد شدها الى خلفية ذلك المطلق المتواري، والذي سيطر على كل دفقة من دفقات الرؤيا الشعرية المتشاكلة في جزئيِّاتها فـ (الذات/طائرٌ ذبيح، الطائر/مسرح، المسرح/ثياب، الثياب/حلم، الحلم/نهر، النهر/صبي، الصبي/قلب، القلب/قصيدة، القصيدة/حرف، الحرف/نقطة، النقطة/صوفي، الصوفي/إله، الإله عاجزاً يحدِّق بالطائر الذبيح). وتجدر الإشارة هنا لما بدا على النص من طغيان لصيغة الاسم إذ تكاد الاسطر الشعرية تخلو من الأفعال (فعلين فقط) مما أبعد الصورة عن الحركية أو الاستمرار في الحدوث وجعلها أقرب للاطلاقية والثبات الواقع خارج تأثير تبدلات الزمن.
لم يسع أديب كمال الدين لجعل النص الشعري مكاناً لاختزال طوفانات الحروب وما تمخض عنها إلا بمقدار ملامستها لما يخبو من دلالات ورؤى عنيت بفك شفرات الموت والخراب كذوات تحاصر الإنسان والأشياء وتربك وجودهما. ومن هذه الأرضية تكرر هاجس الموت بوظيفتيه التصويرية والأخرى العاطفية التأثيرية في مساحة واسعة من مجموعته (أربعون قصيدة عن الحرف) وبمعان توقظ خزيناً خصيباً مما ينساب في سياقات وأصول فكرة الموت بوجهيها، الرمزي والحقيقي:
ستموت الآن.
أعرفُ، يا صديقي الحرف، أنكَ ستموت الآن.
لم تعد نقطتكَ الأنقى من ندى الوردة
تتحمّل كلّ هذا العذاب السحريّ
والكمائن وسط الظلام
والوحدة ذات السياط السبعة.
لم تعد، أيّها البسيط مثلي
والضائع مثلي،
والساذج مثلي،
تتحمل وحشةَ هذه الرحلة التي لم نهيئْ
لها أيّ شيء
ولم يخبرنا أحد
عن مصائبها التي لا تنتهي.
انتظرنا – أنا وأنتَ – طويلاً سفينةَ نوح.
جاء نوح ومضى!
لوحّنا له طويلاً
بأيدينا
وقمصاننا
وملابسنا
ودموعنا الحرّى.
لوحّنا له بيتمنا الأبديّ
وبضياعنا الأزليّ.
لوحّنا له بطفولتنا العارية
وبشمسنا الصغيرة التي تغيّر طعمها
وأصبحتْ بحجمِ ليمونةٍ ذابلة.
لوحّنا له بكلّ شيء يُرى
وبكلّ شيء لا يُرى.
لم ينتبه الرجلُ إلينا
كان طيّباً ومسالماً
ومهموماً بسفينته وابنه وطيوره.
وكنّا لا نطلب شيئاً سوى النجدة! النجدة!
نعم، يا صديقي الحرف،
دعنا نصرخ الآن:
ال……..ن…………ج………….دة!
ربما سيسمعنا ذلك الرجلُ الطيّب
أو مَن أرسله في مهمته العجيبة.
دعنا نصرخ أيّها الحرف الطيّب
ربّما سينتبه لنا.
لا تمت الآن أرجوك! (جاء نوح ومضى ص 7)
تتحرَّك خيوط فكرة الموت في النص السابق باتجاه لا يخذل التأويل المنحاز لسؤال الوجود والعدم لأنّها تلامس موضوعة ترقّب الموت، وهي أداة مثالية للتعبير عن فكرة الانتظار وما يحيط بها من شعائر لا تخلو من أصول أسطورية. إذ تنحسر الذات المنتظِرة عن الظاهر وتبدأ بالتطلِّع لذلك الغائب/المنقذ (نوح وتجلياته في الوعي الإنساني) بوصفه القادر على منح هذا الوجود الموضوعي امتداداً أو وجوداً روحيِّاً أكبر وأعمق في معناه، ولذا فمن الطبيعي استصراخه كي ينجد رمزيتنا/حروفنا.
بقي أن نشير الى أنَّ أسباباً متعددة دعت الكثير من الشعراء على اختلاف اتجاهاتهم وأزمنتهم وأمكنتهم لمحاولة تمثل المدونة الصوفية، ومنهم من نجح في الاقتراب منها، ولكن أديب كمال الدين لم يقترب منها وحسب إنما لامسها بقوة وكان بارعاً في هضمها وإعادة إنتاجها من منظور شعري حديث قدَّم عبره منجزاً له صيرورته وخصائصه الداخلية الخلاقة وكأنه صورة واستبطان حي لجوهر الذات العارفة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* هناك فرقة من الصوفية تعرف باسم الحروفيين، أي المشتغلين بالحروف، مؤسسها فضل الدين الأسترآبادي، ومن أبرز اتباعه الشاعر التركي نظامي. ومن بين ما يعتقد هؤلاء هو أنَّ للحرف كينونته المستقلة التي تحيا وتسبِّح لله تعالى.
* دار أزمنة، عمَّان، الأردن، ط1،2009.
1 ، 2 – حوار مع الشاعر محمد غازي الأخرس، مجلة (أوراق ثقافية)، الأردن، ع 4 آذار 2001.