“لحظات معراج”، عنوان الديوان الجديد للشاعرة المغربية خديجة بوعلي، عنوان شاعري، يحمل أحداثا لها قيمتها لدى الشاعرة، وهو ما تضمره لفظة “لحظات” فاللحظة في المعاجم تعني من بين ما تعنيه الوقت الحالي الذي يشكل لشخص معين فرصة ما أو حدثا يتم في ظرف محدد غالبا ما يكون باعثا لتصرفات ومواقف محددة.
أما المعراج، فهو المصعد أو السلم، وفي القرآن الكريم “وَلَوْلاَ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ” .
وهكذا يحيل عنوان الديوان على :
ـ التقاط الشاعرة مجريات حدث لحظات، وهي مرفوعة إلى رحاب عوالم الشعر الفسيحة، حيث البوح بما يعتلج في الأعماق.
ـ اقتناص لحظات لها وقع على فؤاد الشاعرة مما جعلها تترسخ في ذاكرتها وقد تفاعلت معها وجداننيا تفاعلا عميقا.
ـ رغبتها في إشراكنا تجربة حياتية طرأت لها وهي في تعيش في سماء الشعر وأجوائه ذات لحظات.
وهنا تكمن شاعرية هذا العنوان، وتجعلنا ننتقل مع الشاعرة ـ حتى قبل قراءة قصائد الديوان ـ إلى عوالمها المفترضة والتي ننتظر منها مشاهدة وسماع الجميل المثير المفعم بضروب الخلجات. وصدق وليد علاء الدين حين اعتبر سماء الشعر” آخر سماوات الكلام، فهي قمّة تجريده، والقصيدة الحقّة تعتصر الكلمات، تجرّدها وتعيد سبكها لتخلّصها من آفات التسطيح والاستعمال المباشر والاستهلاك الزائف وصولا إلى روح المعنى، فإذا فعلت بلغت ذروة سماء الشعر، واستنفدت كل ما تستطيعه الكلمات -كلغة- في إثارة الخيال وجلوّ الروح. كل ما تحت هذه السماء سرد يحاول أن يرقى إلى سماء الشعر، وما بعدها سماءٌ للغة أخرى لا سُلطة للكلمات فيها، إنها سماء الموسيقى حيث يتجاوز التجريد حدوده فلا تعود الكلمة قادرة على الوفاء بشروطه. وما بينهما القصيدة1.
وعنوان الديوان إعدادٌ للقارئ كي يلج أحضان الصور والمعاني التي ترصفها الشاعرة بمفردات في تراكيب محبوكة تحتضن دلالة ورؤية، تجعل القارئ يعيش لحظات ممتعة بمشاهد من صياغة الشاعرة، وهو ما نجده في القصيدة الأولى الحاملة لعنوان الديوان ذاته” لحظات معراج”
تقول الشاعرة في هذه القصيدة:
أذكرك
مازلت هاهنا… أذكرك
صهوة ريح أنت… في غيهب التيه
موج شرود أنت عات… أعتليه
أذكرك
حاضرا في الغياب نفحة عطر
معزوفة نياط.. بزقزقة طير …
خميلة ظل في عز الصه د …
شلال عطر في هجيرة البُعد
أذكر ك …
كلما اشتد قيظ الظهيرة
كلما فككتُ عقدة ضفيرة
كلما تعالى العواء
في الليالي القريرة
كلما تبدد نور الفجر
في أدغال الوحشات المريرة
هرعت … ركضت …
أتلمس أطيافك حولي كالضريرة
أذكر ك …
عندما تدهسني الخيبا ت
وتسكنني الأنا ت
تنبت في حدقاتي مسامير انتكاسات
تصدأ مرآتي …تنتحب البسمات
أذكرك
تينع في أوردة السنين
كريات أحلام ترسمها الآهات
أذكرك
كلما لاحت رياح الكدر
وامتطى الهواء شراع سفينة … وابتد ر
كلما انتعلت الدروب ضياع العمر
وارتطمت الأشواق بالصخر والجُدُ ر
أذكرك
فهي مطاردة للغائب، متعلقة به، واصفة إياه بصفات تبرر بها فرادته وخصوصياته إلى درجة حضوره الدائم في وجدانها وهو غائب، فهو نفحة عطر، ومعزوفة وخميلة ظل،وشلال عطر…نعوت وصفات جعلت الشاعرة دائمة التفكير والتشبث بشخصه المائز، في كل الفضاءات الزمكانية المرتبطة أو المحيطة بها: في قيظ الظهيرة والليالي القريرة وأواخر الفجر،وأدغال الوحشات المريرة…وهو ما يجعلها تقوم بأفعال تدل على اضطرابها وهي تبحث عن استعادة صفاء حياتها بتوازن نفسي يحققه هدفها المتمثل في العثور على المفقود للتواصل الوجداني معه، فهي تركض، وتهرع، وتشعر بالخيبات، وتئن وفي عينيها مسامير الهزيمة…وتختم القصيدة بتوسلاتها وهي تعيش في خضم الشجن والألم والأمل، تقول:
خذني … احملني إلى سدرة المشتهى
إلى أفق رحب في حافة المنته ى
إلى حرية تفك عن المعاصم القيد والوث ن
حيث تسطع على جزيرة وهم ي
شمس الضحى .
وجل قصائد الديوان يعتريها هذا التعلق بالمتحدث عنه حنينا إليه وعشقا له مما جعلها تعيش تمزقات في حياتها، فهي بين الجذب والانفصال، بين العتاب واللون والتمني والأمل، تعيش حياة الصارخة المشتكية، تكره بقدر ما تحب، فهي تبرر تشبثها وثناءها كما تبرر مقتها وكرهها، تقول الشاعرة في قصيدة “إليك عني”:
وأنا اطاردك… تلاحقني
و أنا اطارد طيفك المتوغل في ؛
يلاحقني طيفك المتجذر في أنفاسي
المتلعثمة .
كلما مزقت ظلالك المتطاولة على ظلي ،
أرمي بها في نا ر تتأجج في عمقي ،
تنهض كالفينق من رماد ذكرياتي
تنتصب… شاخص القصد في تدمير فر حة
بحلم بئي س توثق خطاي .
هذه عيناي انتزعت منه ا نورك المخترق مداي.
هذه يدي ابعدتها عن يدك / العصا التي
أتوكأ عليها في العتمات
متى أُسقط أرضا حاجتي إليك ؟
متى أسقط من حساباتي البائدة؟
متى يصبح ابتعادي بعدا للروح عنك
وبيدو أن استرسالها في الحديث عن الغائب المشتاق إليه، جعل قصيدتها تطفح بهذه المشاعر لنجد نفسها متصلا وهي تقدم قصيدتها الثانية من الديوان وكانها جزء من القصيدة الأولى، وقد عنونتها بـ” غبية أنا بما يكفي” وهو عنوان يحمل غباءها لمن لا يأبه بخلجاتها ونداءاتها المتكررة من أجل القرب والحضور لهذا المخاطب، وقد مثلت كبرياءه مقابل غباءها بصور جميلة تعمق القصد وتخلق اللاتوازن بين الراغب والمرغوب بصيغة ينشأ عنها الصراع النفسي إلى حد الاضطراب.
تقول الشاعرة:
كما العادة… لم تكن هنا
كنتَ مطلّا من شرفة
العجرفة
مرتديا كبرياء لا له دا ع
و لا مصداقية
لم تكن هنا …
كنت هناك… ممتطي ا
سنا البرق
و صهوة غيمة ملبد ة
باللامبالا ة
متواريا خلف ضبا ب
من اللا معن ى
و لا جدوى الانتقادا ت
أكما العادة …
كلما احتجت إلي ك
كبّلتَ نسمات الهواء
أطرقتَ قرون الجبال
من كل الجها ت
ذاك المدى الموزع بالتساوي
في الغفوة و اليقظا ت
حجبت بستائر و جداريات
في وجه الدروب
اعتقلت الخطوات
علّبتَ المرايا
صدّرت المنى إلى مناف ي
المستحيلات .
غبية كنت بما يكف ي
أفتح ف ي الصبح كل الشرفات
وأهذي
أنظف بأهدابي مخلفت
غضب الأنهار
من أوحال مثخنة بطمي الوجع
و ما نفق من أسما ك
ذاك الحجر… الأحجا ر.
هذا الغباء الذي تعتبره الشاعرة لعنة ترسخت آثارها السوداء في قلبها، جعلتها تتذكرها باستمرار وهي تعاتب نفسها، وتحذر غيرها في ذات الوقت من الوقوع فيه بشكل من الأشكال، وهاهي تقول في قصيدة”لعنة الغباء”
ذات غباء.. .
طرقت بابي الرياح
فتحتُ المدى على المصراعين
فرشت الرمل على جنبات السماء
لقنت النجمات رقصة… رقصات
على خصرها وضعت
خيطا رفيعا بألوان قزح
ذات غباء.. .
قهقهت فرحا… حتى
تصدعت من قهقهاتي
عتمات المسا ء
انتشيت برذاذ الموج
حتى حلق ت
في الجفون الفراشات
وإذا انتقلنا إلى القصيدة الثالثة ” لا قواعد لنبضي” فإن عنوانها هذا يجعلك لا تفارق هذا العالم الذي ترسم الشاعرة معالمه وهي البطلة فيه تحمل نبضا حرونا لا يلجمها عقل ولا حذر، يترجم حالة الحاجة والتيه الذي تأجج جذوته في جوانحها، ومن هنا تنبثق حالة الوله الخالقة لأجواء درامية ضمن قالب جمالي وضمن أسلوب من قبيل السهل الممتنع.
مشاعر جياشة منثورة على بساط القصيدة والتي تعتريها مشاعر الحنين وحرقة البحث والفقدان. فهي ترفض التقوقع والانحباس داخل ما يحد هذا النبض الذي تريده أن ينطلق حرا بعيد عن كل ما يمكن أن يخنقه فهي ترغب في حياة بلا جدران ولا سياجات، تريد أن أن تحيا بلقائية وعفوية، وترفض كل من يريد المساس بانطلاقاتها الحرة ، وهي تروم بذلك فعل وصِفة الانعتاق من الأسوار، والمتاريس المؤثرة من النبض والأنفاس، تريد الحرية التي تنفتح لها الآفاق، فلا يحد من خطوها حبس ولا أسْر.
تقول الشاعرة:
لا قواعد معلبة تحكمني
أقضم خطوطها العريضة بأنياب رفضي
أراوغها كي لا تجثم على صدر سكناتي
أطيح بكل البنو د
بكل الطوارات المرصوصة كالحجر
تضيق دروب حركاتي
تخنق انطلاقاتي .
أكره الخط المستقي م
إن شيد على امتداد شغافي…
إن أغلق فجوات يتسلل منها شعاع
يهزم عتماتي
إن عرقل نبضات قلبي
أطير بجناحي عفويتي.. .
بتلقائية أجوب فضاء أحلامي
بعفوية أقطع و الخيالات مسافات و مسافا ت
وهنا تبرز فلسفة الشاعرة تجاه الحياة باعتبارها فسحة تحيل على الحياة بلا قيود، فهي في نظرها باحة لا تحاصرها التضاريس، ولا تحاصرها الأبنية والفواصل.
والحرية استشعار لعدة حالات نفسية إنسانية، وهي أصل اعتزاز الإنسان بنفسه، ولا قيمة للحياة في ظل القيود والحواجز المولدة للأحقاد والكراهية والنفاق بكل أشكاله. وأول من نادى بهاته الحرية الأدباء والفلاسفة علوة على الأديان وفي مقدمتها الإسلام” متى استعبدتم النّاس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟” من أقوال عمر بن الخطاب. تقول الشاعرة وكأنها تحدد موقفها وتعريفها للحرية:
الحرية؟ !
باحة طويلة… عريضة
سراجها وهاج ينثرالنو ر
في كل الجوانب.
لا سقف لها
لا جدران
لا حاجة للنوافذ
لا فواصل فيها
ولا لها سواحل
حجمه ا حجم البحر
لكن ماءها رقراق
بلا ملح.. .
تسير فيها على بسا ط معشوشب
وأحيانا تطير بجناحين
بألوان قزح
بين النجمة و النجمة خطوة
هذا التدفق الشعري المرتبط بالأحلام الذاتية والتوق نحو تحقيق المبتغى، خلق عالما كله اندفاعات تعبيرية عما يعتلج في الصدر، محددا موقف الشاعرة من كل ما يحيط بها ويعكس مشاعرها وبذلك تعلن بأسلوب فني عن موقفها إزاء ما يعتمل في ذاتها في كل آن وحين.
وكل قصائد الديوان تجعل القارئ يعيش محاطا بأجواء وصور ترسمها الشاعرة بكل أحاسيسها وعمق مشاعرها. فها هي في قصيدة”صليل الروح” تجعل الصبح الخريفي بطلا تتفاعل معه تفاعلا صراعيا، يبعث في أعماقها الحنين وشجون الذكريات، فتخترق الزمن لتعود إلى هناك، لتتأجج حروفها وهي ترتاد فضاءات ذكريات سنين. تقول الشاعرة:
هذا الصبح الخريفي
مدجج بالشظايا
متأبط الفراغ
يراودني عن نفسي
لفها بين ذراعيه
ترى إلى أين بي؟ !
إلى أين بها؟ !
يعود بها القهقرى
حط بها حيثما
يدحرجني الحنين
كلما غفوت قليلا
إلى أسفل السافلين من الذكرى
تنهار بي جدران الحاضر
أعود إلى الهناك تَوّا
هاذي الحروف تتأجج
تتخبط بين أنقاض السنين
تلتمس جواز المرو ر
تصبو لولوج باحة النو ر
تتسابق للانعتا ق
كلما سالت حبر ا
بدت بهزال شديد
بإعاقة حركة و سكون
تواري سوأة ما خفي
“فما خفي كان أعظم “
عموما تقدم الشاعرة خديجة بوعلي تجربتها الجديدة، لتحدد بعضا من هواجسها ولواعجها، ونظرتها إلى العالم الذي تعيش في أحضانه، فهي في دواوينها تتميز كتابتها بانسياب تعبيري جموح ، وبلغة صافية سلسلة سلاسة لا تفقدها العمق والرقي الأسلوبي المطلوب في جنس الشعر قبل الأجناس الأخرى. فهي تراهن على إتباث ذاتها الإبداعية مشاركة بتجربتها الثرية في حركة الشعر المعاصر والذي جاء “استجابة طبيعية لمرحلة إنسانية مأزومة، وإشكالية من حيث أبعادها الفكرية والجمالية، فهو وجود يكشف الإنسان في قلقه وشقائه وعبثه وتمزقه وفوضويته وانكساره واحباطاته، ولذا لم يصبح النص الجديد مسطح البنية، غنائي الأداء وأحادي الدلالة، بل إن النص الجديد اكتسب وجوده الحي من خلال جدله الدائم مع نصوص أخرى يبتل بمائها ويتجلى في لهيب غامض يدعو إلى البهجة والدهشة والتأمل”
ــــــــ
هامش:
1 ـ سماء الشعر،وليد علاء الدين، صحيفة العرب، ص14.
2 ـ سردية الشعر ـ شعرية السرد، عبد الناصر هلال، علامات، المجلد 18 الجزء 72 يناير 2011م، ص212.