مهداه ..
إلى كل كاتب دفع ، ويدفع الفاتورة في مصر ..
وإلى المقاتلين ..المدافعين عن( فلسطين) الذين دفعوا، ومازالوا يدفعون الفواتير..
* فاتورة 00
الشمعة الوحيدة المضيئة داخل البيت راحت تبكى في صمت من آلام حرقتها ، جن جنون الزوجة وهى ترى زوجها ينطفئ أمامها رويداً .. رويداً ، راحت تحدث نفسها في أسى بصوت لا يسمعه إلا ذاتها المنهكة إلى حد الإعياء :
– إلى متى الاستسلام والانتظار الذي طال ..
صمتت برهة لتمسح الدمعات الساقطات من جوف عينيها ثم أردفت تقول :
– ربنا يجعل يومي قبل يومك ..
تركته وراحت تبدل ملابسها ، وأسرعت بالخروج .. دقائق وعادت تقول إلى سائق التاكسي وهى تنزل منه :
– دقيقة واحدة ..
دخلت الشقة ، وراحت تجمع ما تستطيع حمله من مؤلفات زوجها ، ثم وضعته داخل كيس كبير من البلاستك ..
الروشتات ، والأشعات القابعة فوق الكوميدينو بجوار زوجها راحت تناديها في صمت ..
جمعتها في عجالة ثم وضعتها داخل الكيس ..
اقتربت من زوجها وراحت تساعده في الوقوف ، الصمت الهادر بقوة جعله يفقد توازنه ، ضمته إلى صدرها في قوة وراحت تقول في صوت مهموس :
– لن أتركك تضيع منى مهما كلفني الأمر ..
فماذا عساها أن تفعل ، وكل الأصدقاء ، والأهل ، والجيران قد تلاشوا تماماً فور سقوطه ، حتى التليفونات ، والفاكسات ، والتلغرافات .. كل هذه الأشياء التي قامت الزوجة بعملها حتى تنقذ زوجها من براثن المرض تبخرت هي الأخرى مع وعود المسئولين المتواصلة بعلاجه الفوري والسريع على نفقة الدولة مثل الفنانين ، والفنانات ، ولاعبي كرة القدم ..
إنها تعرف جيداً سبب هذا التجاهل من قبل المسئولين ، وكانت تتوقعه بين اللحظة والأخرى ، من جراء ما يكتبه زوجها ، الذي جاءه عبر الهاتف ، وعبر خطابات البريد تهديد بالقتل ولكنه لم يخف يوماً من الموت ، وكان دائماً يرد على زوجته التي كانت ترجوه أن يتوقف ولو قليلاً عن الكتابة
( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا )
فهو دائماً يرفض التصالح أو التسامح أو المقايضة على مصالح هذا الوطن ، ولم يسع يوماً إلى أي منصب أو طلب العفو والغفران حتى ينال حقه من التكريم ، إنه صاحب نداء
( شاغبوا تصحُّوا ) فشاغب وحارب بقلمه طيلة حياته وكتب عن غرق العبارة السلام 95 ،وعن الوحدة العربية المتقطعة ، وعن الدماء الفلسطينية الممتدة من المحيط إلى الخليج ، وعن …..، وعن …..، وعن …..، وكثيراً ما كانت تستيقظ زوجته من نومها فجأة لتجده جالساً يعتصره الألم وهو يفكر قبل أن يكتب ، وعندما ترجوه أن يتوقف عن الكتابة ويقوم لينام ، كان رده الواقف على طرف لسانه : ( كيف أنام والقدس أسير؟! )
أنطفأ القنديل فور سقوطه من فوق حلبة المصارعة بضربة مرضه القاضية ..
وطأت أقدامهما باب مستشفى تخصصي ، أجلست زوجها ثم اتجهت صوب موظف الاستقبال الذي تبسم في وجهها منذ لحظة الدخول ، وراح يقول بدوره :
– اسم المريض ..
ردت الزوجة :
– ألم تره من قبل ..؟!
– لا ..
– اكتب اسمه ( …….)
ثم أردفت تقول :
– ألم تسمع عن هذا الاسم من قبل ..؟!
– لا ..
أخرجت الزوجة من الكيس البلاستك كتب زوجها ، وراحت ترصها أمام الموظف وهى تقول :
– ألم تقرأ شيئاً من هذه الكتب ..؟!
– لا ..
في غيظ قالت :
– أو حتى سمعت عنها ..؟!
– لا ..
شعرت أنها كزهرة صبار تعيش بلا ماء ..
فاجأها الموظف :
– من فضلك ألفين جنيه تحت الحساب ..
تنحت الزوجة جانباً ، وراحت تعد ما معها من مال ، وقفت برهة صامتة فما معها لا ينفع ، لقد كان إحساسها بالقهر الذي صدمها به هذا المكان ، نظرت إلى زوجها الجالس في صمت ، ثم نظرت إلى (الغوايش) التي تلبسها ، ثم التفتت إلى الموظف وراحت تقول :
– اعمل اللازم دقائق وسوف أعود بما طلبت ..
عادت مسرعة ، وفى يدها الفاتورة وثمن البيع ، جن جنونها عندما وجدت زوجها ما زال جالساً في مكانه وقد غفا ، صرخت في وجه الموظف وهى تعطيه الفلوس :
– لماذا لم تدخله ..؟!
– رماها بابتسامة لا لون لها ولا طعم ثم قال وهو يعد الفلوس :
– حالاً .. حالاً .. يا أفندم
– ألف سلامة ..
قالها التومرجى بعدما وضع الزوج فوق السرير وراح يغادر الحجرة ..
ردت الزوجة وعيناها تجوبان الحجرة الواسعة المكيفة والتي وضع بها ثلاجة صغيرة ، وتلفاز واحد وعشرون بوصة ، وتليفون استقبال :
– الله يسلمك ..
التفتت إلى الزوج الذي راحت أصابعه تتحرك في بطء شديد نحو جيبه ليخرج القلم وقصاصة من ورق ، صرخت الزوجة في حب :
– حرام عليك كفاك كتابة ألم تر ما حدث لك من جرائها ..؟!
نظر إليها ، فهمت مقصده ، أمسكت الورقة ، راحت تقرأ سطورها بصوت مسموع ..
( من فضلك افتحي التلفاز على قناة “الوحدة العربية” )
ردت عليه فور قرأتها :
– كفاك حزناً على حزنك ..
رماها بنظرة رجاء ..
فتحت التلفاز على مضض ..
*وفاتورة ..
الطائرات الإسرائيلية ما زالت تحلق فوق سماء (فلسطين ) .. تقصف وبشدة مدينة ( غزة ) التي تحولت شوارعها إلى برك من الدماء .. دماء أبطال المقاومة الذين لم يتهاونوا لحظة واحدة في الدفاع عنها ، رافضين وبشدة رفع راية الاستسلام
حتى لا تقع ( غزة ) أسيرة في يد الغزاة ..
يدفعون بإرادتهم فاتورة نضالهم ضد العدو ..
التفتت الزوجة إلى زوجها القابض بقوة فوق القلم ، وفى عينيه دموع تود الفرار لولا تماسكه .