سأل عبد الملك بن مروان الشاعر : أرطاة بن سهية ” كيف أنت في شعرك ؟” فأجاب ” والله يا أمير المؤمنين ما أطرب ، ولا أغضب ، ولا أرهب ، وما يكون الشعر إلا من نتائج هذه الأربع (1) ونقل شيء من هذا عن الحطيئة (2) وهذا معناه أن بواعث الشعر تأتي من الاحساس أو الشعور أولا قبل أن تكون صناعة ، لهذا كان لأغراض الشعر تأثيرها المباشر في شعر الشعراء ، بل أصبحت فيما أظن أشبه بمحاكاة لطرائق السابقين من الشعراء ، أكثر منها قناعة فنية ، وإذا كانت القصيدة في مختلف أشكالها ستظل نتاجًا للتفاعل الخلاق بين التجربة والثقافة ، فالتجربة هي تجل للذات ، بينما الثقافة تعبير عن الموضوع ، ولأن كلا منها متغير بالضرورة بتغير الذوات والعصور ، والأماكن ، تصبح القصيدة ” الحقة” هي القصيدة المتفردة ، وعلى ذلك ، فإنه مهما ساد نمط من الثقافة في عصر ما ، فإن الذات تقوم بإعادة انتاج تلك الثقافة ، كي تنحي بعض عناصرها ، مقابل إعلاء عناصر أخرى ، وتلك العملية التي تشبه التباديل والتوافيق الرياضية ، عادة ما تؤدي بالشاعر إلى التفرد ، كما تحيل القصيدة إلى بصمة فنية ، تتشابه – من حيث الشكل العام – مع بصمات أخرى ، لكنها تظل – في العمق منها- كونا مغلقا وقائما بذاته (3) يخص الشاعر وحده دون سواه :
تتألم الأحجار في أحلامنا
وعويلها لا يُسمِع الإزميلا
ويظل معنى الظلم في آهاتنا
حتى يجسّد في الرؤى قابيلا
قد عاد أبرهة الأخير بجيشه
ليهد قلبي ما استطاع سبيلا
وأنا (أبابيلي) استحالت بلبلا
لم ترم من فرط الكرامة فيلا !
هذا التناص مع قصة أصحاب الفيل يشير إلى أن التجربة التي تشكل الخبرة العاطفية رهن بذات الشاعر ومفهوم الشعر عنده ، ولولا قوله ” ليهد قلبي ما استطاع سبيلا “، لباتت تجربة النص مجرد تركيبة لفظية لا علاقة لها بذات الشاعر وتجربته الذاتية ، كونها هي التي تشكل رؤية الشاعر للعالم ، ثم إنها في نهاية الأمر – هي الروح التي تشيع في التجربة الذاتية ، سحر الانتقال من العام إلى الخاص إلى العام ، فتضفي عليه الحيوية والديمومة ، ووفقا لهذه التصورات ، فإننا نرى أن عالم شاعر مثل “صالح الهنيدي” شاعر تراثي بامتياز ، لكن هل هذه الثقافة التراثية كافية لرفد التجربة الذاتية بعواصف الشعر وجراحاته ، أي نعم ، وهذا ما سنحاول اكتشافه ونحن نقرأ نصوص الشاعر الذي يملك أكثر من تسعة دواوين وتنشر أعماله في أكثر من مطبوعة جماهيرية …
سكبت في قلمي الإحساس فانسكبا
ومزقت كلماتي الستر والحجبا
يا أول الغيم في ترحال قافيتي
وآخر الوهم لما يسكن الهدبا
هاجر وخذ في يديك القلب والغضبا
واحمل رفاتك في نعش الهوى لهبا
ما كنت لي حين أغراني الوفاء وما
زالت أناشيد قلبي تنشد التعبا
من أخبر الغيم أن البرق يقتلني
يا ليته في مدار الشوق ما انتقبا .
ما من شك في أن كل بيت من هذه الأبيات يشكل صورة شعرية كاملة الأوصاف ، والشعرية لغة تصوير ، وبناء الشعر هو بناء صوري قبل كل شيء ، وطبيعة التصوير في قصائد ” صالح الهنيدي ” ترتبط بالتدفق العفوي لانفعالاته ، وتتكاثر صوره في تواقيع المفارقة والاختلاف بين الكلمات التي يشكلها الشاعر ببراعة :
يا أول الغيم في ترحال قافيتي
وآخر الوهم لما يسكن الهدبا
على اعتبار أن هذا النوع من الكتابة ينحو باتجاه المهيب والجليل والسامي من القول ، والشاعر حريص كل الحرص على الإيقاع النفسي والصوتي الذي يسعى إلى أسر المستمع ويوقعه في شباك البلاغة الساطعة ، ولكن الشاعر في نصه هذا على سبيل المثال لا الحصر لم يحرص على وحدة القصيدة ، أي صياغة القصيدة كوحدةٍ عضويّةٍ واحدة متسلسلة ؛ بحيث لو أُسقِط بيت واحد منها لاختلّ المعنى كلّه ، كما لا يمكن تقديم بيتٍ أو تأخير آخر ، لكننا مع ” صالح الهنيدي ” يمكننا أن نفعلها !
نحن إذن أمام إشكالية جد مهمة ، فالشاعر بارع جدًا في كتابة القصيدة التي تأتي فيها الأبيات كوحدات منفردة بمعانيها ، ولهذا يبرع في القصائد القصيرة إلى حد كبير ، وأظنها من أهم مميزات شعريته ، ومن أبرز ملامحها : سطوة الصورة الشعرية وتفردها ، الاختزال ، الهروب من المعنى المباشر ، اللغة الرقراقة وإن كان الشاعر يكتبها بحياد عاطفي ، فغالبا هو يكتب نيابة عن الجميع :
الشعر مصباح الشعور وزيته حس ووجه زجاجة لا يُكسر
الشعر أنفاس الحنين ترق في رئة الوجود فما له لا يزفر !!!
الشعر ثغر باسم يستلهم الكلمات يشدو والأنام تفسر .
أمر أخر في منتهى الأهمية ونحن نتحدث عن تجربة شاعر محدث ، أن نجده شديد الانشغال بالكيفية التي تربطه بتاريخه ، فيكتب قصيدته : تأبط سرًا ”
سيخبرك البدر عني سرًا
فلا تهمليه إذا ما تجرّا
ولا تسمعي همهمات الحنايا
فحبك في الخافقين استقرا
وفي مقلة الفجر ضوء شفيف
إذا الليل عند الصباح تعرى
عهود الغرام استحالت سرابا
وروح المحب من الوجد حرى
رويت من الأمنيات ولكن
ذراع الظروف تأبط شرا .
وعلى جانب أخر ، قد يحاول الشاعر الابتعاد قليلا عن الاتجاه التراثي فينحو باتجاه قصيدة التفعيلة ، ربما تمهيدا لخلق عادات لفظية جديدة في تجربته ، وهو ما يمكن للقارئ اكتشافه في نص ” أواه يا عراق ” يقول الشاعر:
من أين لي أن ألتقي
كوجهك الجميل
كنبضك الأصيل
في العروق ؟!
من أين لي أن أستقي
كنبعك الدفاق
كمائك الرقراق
من نهرك الرقيق ؟!
من أين لي أن أرتقي
لقمة الجبل
بهمة البطل
من دونما رفيق ؟!
من أين يا عراق ؟
دخلت من بوابة الزمن
لكي أرى جذورك الأصيلة
ممتدة في رحلة طويلة
تكاد تسبق العصور
في فترة العبور
نظرت في ملامح التاريخ
وجدته يضج بالصور
يفيض بالعبر
بدت أمامي صورة الحجاج
مكسورة الزجاج
وصورة المأمون والأمين
ثم اختفت في غمرة السنين
فجلجلت على مسامعي
قعقعة الجيوش والدمار
من هجمة التتار
عليك يا عراق ..
بهذه اللغة التقليدية ، ومحاولتها التحرر من البلاغة القديمة ، ” في عصر تحول في الذوق وطراز المعيشة وأسلوب التلقي وإعادة تمثيل العالم في النص الشعري حتى تصبح قراءة النص هي ذاتها