من هنا استأثر نبأ رحيل ناجي جبر باهتمام الشارع السوري، فقد أحس هؤلاء بأنهم خسروا قبضاياً من صفوفهم، وصديقاً (ينصر أخاه ظالماً أم مظلوماً) كما كان يفعل مع (أبو الغور) أكثر من أن يشعروا بأنهم خسروا فناناً من طبقة الفنانين الذين تبهرهم الأضواء، وتأخذهم الرغبة الدائمة في الاستعراض حتى إذا أرادوا أن يتواضعوا!
مسرح شعبي… وآخر مثقف!
بدأ ناجي جبر، المولود في بلدة شهبا التابعة لمحافظة السويداء عام (1945) لأسرة من منطقة جبل العرب في سورية، بدأ حياته الفنية في نهاية ستينيات القرن العشرين، وقد كان شقيقه الأكبر (محمود جبر) جواز مروره إلى عالم الفن في البداية، حيث عمل في بعض عروض المسرح العسكري، ثم شارك شقيقه محمود جبر في العديد من أعماله المسرحية التي قدمها لفرقته الخاصة التي أسسها عام 1968، ومن الأعمال المسرحية التي شارك فيها ناجي شقيقه محمود ‘صياد وصادوني- حط بالخرج – ليش هيك صار معنا’ وغيرها… من المسرحيات (الكوميدية الاجتماعية الناقدة) كما كانوا يطلقون عليها، في تلك التجربة التي وصفت بالمسرح التجاري أيضاً!
لكن تاريخ ناجي جبر المسرحي، حتى قبل أن يستقل بتقديم مسرحياته الكوميدية الخاصة، لم يكن مقتصراً على المسرح الكوميدي الشعبي الذي قدمه شقيقه، بل كانت له تجارب مسرحية أخرى تنتمي إلى مناخ مختلف، فقد اختاره الكاتب سعد الله ونوس عام (1972) ليشارك في عرض ‘مغامرة رأس المملوك جابر’ الذي أخرجه سعد الله بنفسه، باسم فرقة (المسرح) التي كانت تتبع نقابة الفنانين آنذاك، وقدمت العديد من العروض الهامة.
كما شارك في العرض نفسه في مسرحية ‘لا تسامحونا’ التي كتبها وأخرجها علاء الدين كوكش وفيصل الياسري، باسم ‘فرقة المسرح المعاصر’ وكانت عبارة عن لوحات كوميدية ناقدة، لكنها كانت ذات طرح ثقافي وسياسي مختلف وجريء… الأمر الذي دفع الرقابة آنذاك إلى رفض تمديد عروضها التي كانت تقدم على خشبة مسرح القباني! لقد كان ناجي جبر من عجينة خاصة من الممثلين، فهو سريع الاستجابة لكل تجربة جديدة تعرض عليه، سريع التأقلم مع كل مناخ جديد يوضع فيه… وهو لم يكن يشغل باله بفلسفة الأمور وأدلجة الأفكار، بل كان يتحمس بحب، معتبراً أن مهمته كممثل تنحصر في الاقتراب من الشخصية والإيمان بها، وترك ما لقيصر لقيصر… ولهذا نجح في أن يجعل من موهبته وقوة حضوره، حالة قابلة للاستثمار متى وجد الكاتب الجيد أو المخرج الذكي اللماح!
بدايات تلفزيونية مبشرّة!
بموازاة ذلك، بدأ ناجي جبر بالمشاركة في بعض مسلسلات التلفزيون، إنما بأدوار صغيرة لم تكن تعبر عن طاقاته التمثيلية جيداً، كما نرى في مسلسل ‘حكايا الليل’ للكاتب محمد الماغوط والمخرج غسان جبري (1968) على سبيل المثال لا الحصر… إلا أن هذا لا يمنع أن ناجي جبر قد استطاع أن يقدم بعض الأدوار التي تستحق التأمل في البدايات، كما نرى في مسلسل ‘أولاد بلدي’ للكاتب أكرم شريم، والمخرج علاء الدين كوكش (1972) حيث أدى هنا دور طالب جامعي مفلس وعاطل عن العمل، يهوى كتابة الشعر ويحاول أن يجعل من هذه الهواية قناعاً لبطالته وإفلاسه!
شخصية إشكالية من دون شك، يمكن أن تشكل عبئاً على الدراما، باعتبارها شخصية مثقفة وبعيدة عن المنطق الاجتماعي الشعبي الذي تجسده مسلسلات التلفزيون عادة… لكن ناجي جبر، أداها ببساطة ومرح وبلا أي فذلكة أو تعقيد، وجعل منها تعبيراً فكهاً عن أزمة الشباب المثقف حين يواجه تطلعات الحياة بجيوب فارغة… فأثبت أن خيار البساطة قد يكون أحياناً أصعب من أية خيارات أخرى… ويمكن القول إن هذا ما قدمه في ‘أولاد بلدي’ كان أجمل أدواره في البدايات… وقبل أن يدخل في أسر شخصية أبي عنتر!
‘أبو عنتر’ ميلاد عصر جديد!
يمكن تقسيم تاريخ ناجي جبر الفني في المسرح والسينما والتلفزيون، إلى ما قبل وما بعد… أما الحد الفاصل في ذلك فهو شخصية ‘أبو عنتر’ التي أداها لأول مرة في المسلسل الكوميدي الأشهر ‘صح النوم’ مع الفنانين دريد لحام ونهاد قلعي، ومن إخراج خلدون المالح، والذي أنتج في مطلع السبعينيات!
كان نهاد قلعي، كاتب مسلسل ‘صح النوم’ قد كتب مجموعة من الشخصيات النمطية الشعبية الجديدة على الكوميديا السورية في ذلك الوقت، كـ ‘أبي رياح- أبي جاسم- أبي عنتر’ وكان اسم شخصية ‘أبو عنتر’ في الأساس ‘أبو حديد’ وهو شاب قوي البنية، مفتول العضلات، وخريج سجون، ويفترض أنه صديق لغوار الطوشة… وقد استطاع ناجي جبر أن يقنع صناع المسلسل بأهليته للدور الذي سرعان ما غدا جزءا من لوازم كوميديا دريد ونهاد، بعد أن حقق نجاحاً منقطع النظير في تجسيد الشخصية.
من الغريب أن ‘أبا عنتر’ وهو نموذج مكرر لصديق البطل في السينما العربية، التي كانت وظيفته الدرامية وما تزال ‘سنيّد’ يستنطق هموم البطل لا أكثر، قد استطاع أن يرقى به ناجي جبر إلى شكل من أشكال ‘العلاقة الثنائية مع البطل’ صحيح أن الثنائي الأساسي لغوار الطوشة هو حسني البورظان بالدرجة الأولى… لكن في لحظة من اللحظات، كان بإمكان المشاهد أن يفكر بأن أبا عنتر، له مساحة موازية ضمن المحاور الثنائية، وإلا لما استطاع أن يأسرنا بهذا الحضور… لكن الحقيقة أن موهبة ناجي جبر العفوية، وقوة حضوره وإخلاصه للشخصية، هي التي انتزعت هذه الشخصية، وهي دفعت دريد لحام عندما مرض نهاد قلعي، وتوقف عن العمل، أن يشكل ثنائياً ظريفاً مع ‘أبي عنتر’ في مسلسل ‘وين الغلط’ الذي كتبه محمد الماغوط وأخرجه خلدون المالح… وهي التي دفعت أيضاً الأديب الراحل ممدوح عدوان ذات مرة، إلى أن يكتب فيقول في سياق قراءة نقدية لمسيرة دريد لحام:
(نستطيع القول إن الثنائي: غوار وأبو عنتر هو البديل الأفضل عن ثنائي (غوار- حسني أفندي).
وبالنسبة لجيل السبعينات الذين كانوا أطفالا عندما عرض ‘صح النوم’ ثم أنتج جزء ثان له، ثم أتبع بتمثيلية في جزأين بعنوان: ‘ملح وسكر’ كان أبو عنتر، رمزاً للقوة والبطولة ومتانة العضلات… وكانت صور ناجي جبر مع دريد لحام ونهاد قلعي، تطبع مع تسالي الأطفال الغذائية، فتحقق رواجاً بسبب الرغبة في جمع تلك الصور قبل كل شيء!
خارج بعض مسلسلات دريد لحام اللاحقة، لم يجد ناجي جبر فسحة له في مسلسلات التلفزيون… ربما لاقتصار الكوميديا التلفزيونية الناجحة في سبعينات ومطلع ثمانينيات القرن العشرين، على ما كان يقدمه دريد لحام، إلا أن فترة السبعينيات كرست ناجي جبر نجماً سينمائياً في كم كبير من الأفلام التي قدمتها فورة السينما السورية في تلك الفترة… فشارك مع دريد ونهاد في ‘غوار جيمس بوند’ إخراج نبيل المالح (1974) و’صح النوم’ المستلهم من المسلسل التلفزيوني الناجح، بتوقيع مخرج المسلسل نفسه خلدون المالح (1975) كما شارك بعض نجمات الغناء بطولة العديد من الأفلام كسميرة توفيق في ‘فاتنة الصحراء’- إخراج محمد سلمان (1974) و’غزلان’ إخراج: سمير الغصيني (1976) وطروب في ‘الاستعراض الكبير’ إخراج رضا ميسر (1976) كما ظهر مع شقيقه محمود جبر في العديد من الأفلام: ‘هاوي مشاكل’ إخراج فيصل الياسري (1974) و’صيد الرجال’ إخراج بشير صافية (1976) و’قاهر الفضاء’ إخراج: سهيل كنعان (1976) وقد استمر ناجي جبر نجماً سينمائياً، حتى بعد شح الإنتاج السينمائي السوري الخاص في ثمانينيات القرن العشرين، وعلى العكس تكرست نجوميته أكثر، فحمل أحمد الأفلام اسم شخصيته النمطية الشهيرة ‘حارة العناتر’ إخراج أسامة ملكاني 1984، كما شارك دريد لحام في فيلم ‘إمبراطورية غوار’ الذي أخرجه مروان عكاوي عام 1982، وشهد بداية تحول دريد لحام نحو طرح القضايا السياسية في أفلامه.
ورغم أن سينما القطاع العام في سورية لم تستفد جيداً من حضور ناجي جبر السينمائي، بسبب انصراف مخرجيها نحو تقديم رؤى فنية وفكرية خاصة، إلا أن المخرج عبد اللطيف عبد الحميد قدمه في فيلم ‘صعود المطر’ عام 1994، وضمن أجواء غرائبية لا علاقة لها بشخصية أبي عنتر التي اشتهر بها!
سنوات التجدد التلفزيوني!
أسس ناجي جبر في الثمانينات فرقة مسرحية حملت اسمه، وقدم خلالها العديد من المسرحيات، لعل أشهرها ‘ليلة أنس’ التي أخرجها هشام شربتجي، واستمر عرضها لسنوات على الشاشة، أو مسرحية ‘إعلانات أبو عنتر’ وسواها من الأعمال الخفيفة التي كان يظهر فيها على المسرح بشخصية القبضاي الظريف أبو عنتر التي اشتهر بها… والتي لم تكن تحمل قيمة فنية عالية، لظروف عديدة أهمها غياب النص المسرحي، وتقاليد المسرح الخاص في تلك الفترة… وباستثناء ظهوره في بعض برامج المنوعات كـ ‘تلفزيون المرح’، بدا وكأن ناجي جبر قد جافى التلفزيون تماماً، وخصوصاً أنه غاب أيضاً عن أعمال دريد لحام منذ ‘وادي المسك’ عام 1983… إلا أن انطلاق فنية جديدة له في التلفزيون كانت بانتظاره، حين اختاره المخرج بسام الملا للمشاركة في مسلسل البيئة الشامية ‘أيام شامية’ الذي كان يخرجه لصالح التلفزيون السوري عام 1992…
ظهر ناجي جبر في دور (القبضاي سيفو) الهارب من مطاردة الدرك العثماني له، والمتخفي في حارة أخرى غير حارته، والذي سرعان ما ينسج علاقات جديدة مع من استضافوه، تصنعها الشهامة وطيبة القلب وخفة الظل، فيأسر قلوب الجميع… ويأسر لب المشاهد أيضاً. مزيج من قوة الحضور، وخفة الظل، ومهاراة الأداء الميلودرامي، وعذوبة الطفل المتواري خلف رجولة طاغية… قدمها ناجي جبر فأضحى علامة من علامات نجاح هذا المسلسل، الذي تقاطعت شخصيته هنا مع السمة العامة لشخصية أبي عنتر، إلا أنها في الوقت نفسه، بدت مختلفة في كثير من التفاصيل الجديدة التي تألقت بإحساس ناجي جبر الفطري الجميل.
وقد سعى ناجي جبر بوحي من نجاحه في ‘أيام شامية’ إلى تقديم أعمال تلفزيونية تكرس موقعه في الدراما السورية الجديدة، فكان مسلسل ‘يوميات أبو عنتر’ عام 1997، الذي كتبه عادل أبو شنب، وأخرجه نبيل ع شمس، وظهرت فيه شخصية أبي عنتر، وهي تبحث عن مهنة جديدة… بعد أن أبطل الزمن الحاجة لمهنته الأصلية (تبييض أواني النحاس)، وقد حاول العمل أن يطرح مشكلة تغير نمط الحياة والمفاهيم الجديدة التي يطرحها هذا الزمن الاستهلاكي على شخصية أبي عنتر التي ظلت مرتبطة بقيم الشهامة والفروسية… إلا أن النص افتقد السلاسة والعفوية، وطغت المباشرة والوعظية على الحوار بشكل فج وساذج، وجاءت الأحداث مفبركة في سياقها الدرامي العام!
لكن ناجي جبر، كان على موعد آخر مع التجدد والنجاح، حين شارك دريد لحام عام 1998 مسلسل ‘عودة غوار- الأصدقاء’ الذي أخرجه دريد لحام بنفسه، واستعاد فيه شيئا من ملامح غوار القديم، بما في ذلك صداقته مع أبي عنتر… وقد تألق ناجي جبر في هذا المسلسل، فبدا بالحرارة والعفوية نفسها مع علاقته مع شخصيته النمطية القديمة… وقدم مثالا آخر على قدرته النفاذة في الإخلاص لشخصيته النمطية التي أحبها، من دون أن تشغله وساوس الخروج من أسرها أم لا..
إلا أن ناجي جبر، قدم في أدواره التلفزيونية الأخيرة، شخصيات أخرى، كما نرى في مسلسل ‘غزلان في وادي الذئاب’ مع المخرجة رشا شربتجي عام 2006 ، أو في بعض مسلسلات البيئة الشامية الأخيرة كـ ‘أهل الراية’ مع المخرج علاء الدين كوكش العام 2008، والذي جمع فيه بين شخصيات القبضاي التقليدية، وبين شطحات الهوس الصوفي التي تأخذ الشخصية في مسارات أخرى كان قادراً على بلوغها… فيما كان دوره في مسلسل ‘بيت جدي’ مع المخرج رشاد كوكش العام 2008 أيضاً آخر أدواره التلفزيونية التي تابعها له الجمهور… قبل أن يدخل محنته المرضية الأخيرة التي أسدلت الستار على مشواره الفني والحياتي الحافل!
كوميديا السجن المفتوح!
لقد أحب الجمهور السوري والعربي شخصية ‘أبو عنتر’ لأنها كانت تمثل حالة الاستقامة والحشمة والغيرة على العرض بالمفهوم الشرقي… صحيح أن هذا القبضاي الظريف كان ‘خريج سجون’ لكن أبا عنتر كان يدخل السجن دوماً، إما دفاعاً عن صديقه ‘غوار الطوشة’، أو مؤازرة له… أو نتيجة حالة ظلم أو سوء تقدير… وقد حول ‘أبو عنتر’ بعذوبته الآسرة، صورة (السجن) إلى حالة فيها الكثير من الارتياح الكوميدي، التي تغيب عنها مظاهر القسوة والشدة في تطبيق القانون، لتحل محلها ألفة حياتية مع القضبان، فيها الكثير من التحدي الخفي لمفهوم العقاب… ومن هنا فقد أحبت أجيال من الأطفال ‘سجن أبو عنتر’ لأنه يكاد يكون سجناً مفتوحاً، وهو ليس أكثر من تفصيل عابر في مغامرة دعم الصديق الظريف (أبو الغور). إن أبا عنتر بلا سجن، كان ـ في كثير من الأحيان- مثل غوار الطوشة بلا قبقاب أو طربوش… ولذلك أدخلوه السجون في كثير من المسلسلات والأفلام التي شارك فيها، ولعل أبرزها مسلسل ‘عودة غوار’ حيت يتحول السجن هنا، إلى مملكة مصغرة، يطبق فيها أبو عنتر النظام والقانون العدالة كما يفهمها وكما يراها، مزاجه الطفولي العذب والمتقلب في سذاجة ماكرة!
لقد تحدث ناجي جبر في إحدى حواراته الصحفية عن رؤيته لمشكلة شخصية (أبو عنتر) الدرامية في كل المسلسلات والأفلام والمسرحيات التي ظهر بها، فقال:
(أبو عنتر رجل مستقيم، لا يحب الخطأ أبداً، لذلك يعتقد أن من واجبه تصحيح هذا الخطأ بطريقته وأسلوبه، فيكون مصيره السجن)
هذه البساطة في التعبير، صورة عن بساطة ناجي جبر العذبة في أدائه للشخصية… وفي فهمه للحياة ولها… وبغيابه يودع السوريون وجها محبباً ووديعاً من وجوه فن الضحك الجميل، وقيم الشهامة التي اختزلت على الشاشة صورة القبضاي الذي نعشق فيه الشدة والتهور، بمقدار ما نطرب لمروءته وسذاجته وطيبة قلبه، وهو يخوض معاركه من أجل أصدقائه، في طريق الذهاب والإياب من وإلى السجن… السجن الذي طالما كان يردد أبو عنتر أنه خلق للرجال… ثم يقطب حاجبيه ليكرر عبارته الشهيرة حين يرى دموعاً في عيني أحد من أصدقائه الرجال: (يا باطل عالرجال اللي بتبكي)!!
*القدس العربي