قدّم الأستاذ الدكتور نور الدّين صدّار عميد كلية الآداب واللغات في جامعة معسكر الجزائريّة بحثاً بعنوان ” سيميائيّة الخطاب السّردي:رواية أَعْشَقُني لسناء شعلان أنموذجاً”،وذلك مشاركة بأعمال المؤتمر الدّولي” أفق الخطابات بين التحليل اللساني والتّأويل السّيميائي” الذي تحتضنه جامعة أحمد بن بلة بوهران على امتداد ثلاثة أيام 11+12+13 من شهر تشرين الثاني للعام 2014.
وقد نالت هذا البحث اهتمام الحاضرين والمؤتمرين الذين أغرقوا القاعة بتصفيقهم للباحث الدكتور نور الدين صدار تأثراً بجمال التحليل السّيميائي الذي قدّمه في ورقته البحثية،كما أنهالوا عليه بالأسئلة والنقاشات حول هذه التجربة الروائية الحداثية الجديدة في عالم أدب رواية الخيال العلمي.
وقد قال صدار في بداية بحثه :”رواية ” أَعْشَقُني” هي من الرّوايات العربيّة بل العالميّة القليلة جدّاً التي تحمل اسماً يتكوّن من جملة فعليّة كاملة،وفي حين معظم الرّوايات تحمل اسماً لا غير أو جملة منقوصة تبدأ باسم أو بظرف أو بحرف جرّ.وهذا الاختيار يقودنا منذ البداية إلى حالة القلق التي تعيشها مؤلّفة الرّواية،إذ إنّها الفعل المضارع يحمل الاستمراريّة والقلق والإلحاح إلى جانب الملحميّة؛فالفعل المضارع هو من يحمل ثيمة الصّراع بحكم الاستمرار،فهو بامتياز فعل ملحميّ ينقل إصرار المؤلّفة على أن يكون القلق هو البوابة نحو الدّخول إلى الرّواية”.كما قال في معرض حديثه عن التجريب في هذه الرواية :” لقد صدرت من هذه الرّواية في طبعتين؛الأولى صدرت في العام 2012،في حين صدرت الثّانية في عام 2014،وفي الطبّعة الأولى ظهر الغلاف أحمر اللّون قانٍ في قلبه زهرة حمراء وخاتم ماسيّ في أعماقها؛ولاشكّ أنّ الرواية تُقرأ حقيقة منذ غلافها،فهو عتبة من عتبات الدّخول إلى الرّواية،أو أوّل صفحة من الرّواية؛فالأحمر هو لون ذو تأثير قوي على المناظر أكثر من كافة الألوان الأخرى، وكان يُرمز به للحياة وللانتصار عند القدماء المصريين،وإذا كان رمزاً للحياة، فهو بذلك رمزٌ للصفة التي يسبغها على الجنس، وهي صفة الحياة لا المُتعة فقط، واللّون الأحمر له في الخيال العربيّ صــلة بالدم والشهوة،والدم هو عصــب الحياة الذي تتمّ به، ولولاه لما كانت هناك حياة، في حين إنّ الشهوة هي المحرّك لصنع الحياة التي سيتدفّق الدم في تجسدّاتها الملموسة كالإنسان والحيوان.والوردة في الغلاف هي رمز للحياة حيث تعرض الرّواية إلى أنّ الزّهرة ستكون منقرضة في المستقبل كما سينقرض الغطاء النّباتي كلّه،وهي وحدها رمز الصّلة مع الماضي والجمال والحقيقة،ولذلك اختارت المؤلّفة أن تجعل من الزّهرة هي الباقي الوحيد من بطلة الرّواية؛حيث تركتها في حافظتها الإلكترونية :” ينتقل عبر الآمر الإلكترونيّ إلى صفحة ضوئيّة جديدة، يجد زهرة بريّة مجفّفة مجهولة الفصيلة، يداعبها برقّة خوفاً من أن تسقط بتلاتها نتفاً بين يديه، منذ زمن طويل لم يرَ زهرة أو شجرة حقيقيّة، يحتاج إلى أن يذهب إلى متحف زراعيّ أو إلى محميّة طبيعيّة من يريد أن يرى شجرة حقيقية أو زهرة غير صناعيّة، فقد انقرض الغطاء النّباتي منذ مئات السّنين من كوكب الأرض، ولولا عمليات الاستنساخ الطّويلة لما عادتْ كلمة شجرة إلى قاموس البشريّة المعاصرة، فالإنسان دمّر هذا المفهوم عن بكرة أبيه منذ قرون بسبب تعدّيه الجائر على الطّبيعة واستنزافها عبر الاستهلاك غير المدروس والحروب والحرائق والكوارث البيئيّة المتلاحقة.قرّب الزّهرة من أنفه، وشمّها بتمهّل واستمتاع قادم إلى نفسه على جرعات، لا تزال تملك بعضاً من شذاها الطّبيعيّ المُسكر، قال في نفسه: من أين لها بهذه الزّهرة الجميلة؟ هل قطفتها من محميّة ما؟ ألا تعرف أنّ هذا سلوك جرميّ، ويعاقب عليه القانون بغرامة كبيرة؟! يبدو أنّها مولعة بحق بالمخالفات وبالغرامات وبالجُنح القانونيّة”
أمّا الخاتم الذي يتوسط الزّهرة في غلاف الرّواية فهو دون شكّ يربطنا برمزية تقديسية له مردّها إلى استدارته؛ لأنّه بلا بداية أو نهاية، لذلك عدّه المصريون القُدامى رمزاً للأبدية، وجعلوا العـلامة الهيروغليفية الخاصة بالأبدية عبارة عن حلقة تحمل بعض التشابه بالحبل ذي العروة، ونهايتاه مربوطتان في عُقدة. لذلك كانت تُرسم الحيوانات المقدّسة غالباً ممسـكة بهذا الرمز الخاص بالأبدية بمخالبها.وفي الخرافات الشعبية المصريّة كان يُعتقد بأنّ الخواتم السحرية تُعطي لحاملها الحماية من المرض، والأشــياء الأخرى الكريهة.
والخيال العربي خاتماً سـحريّاً تتجسّـد فيه كلّ قوى سـيدنا سليمان، ويختزل كلّ سـلطانه، وتخيّل كذلك أنّ ذلك الخاتـم قد بقي بعض مـوت صـاحبه، كما بقي محتفظاً بكلّ قواه وخصائصه، التي يستطيع أن يحوزها أيُّ إنسان يملك هذا الخاتم الأسطوري ويلبسه.
أمّا غلاف الرّواية في طبعته الثّانية فقد جاءت صورة المؤلّفة تتوسّطه بزهورها التي تطوّق رأسها،وكأنّها تقول بجرأة:” ها أنذا،أنا سناء وأعشق الحياة،وأعشق الجمال،لماذا لا تفعلون مثلي؟”.هذا الغلاف يقودنا إلى الرّواية عبر المؤلّفة التي تقول دائماً: ” أنا أحبّ الحياة،وأحبّ البشر،وأخجل من كلمة أكرهه،ولذلك أَعْشَقُني”
وفي نهاية البحث قرع صدّار ناقوس السؤال المعلّق في هذه الرّواية،إذ قال :” “باسل المهري” في هذه الرّواية لم يجبْ عن سؤال البشريّة المفترض المقبل في ضوء الخيال العلميّ الذي يرهص بإمكانيّة أن يتقدّم الطّب إلى درجة نقل الدّماغ البشريّ من جسد إلى آخر،فهل البشريّة ستسعد بهذا الفتح العلميّ الطّبيّ أم ستشقى؟ وهل سيكون الموت أرحم من أن يجد الإنسان نفسه بعد عملية جراحيّة عالقاً في جسد آخر؟ أم أنّ الحياة أثمن من أيّ تضحيات؟ هذه الأسئلة الحائرة اللاهثة لا تجد إجابة في رواية الشّعلان التي تعلّل ذلك بقولها :” لأنّني شخصيّاً لا أملك إجابة لها”. ولكنّ “باسل المهريّ” يؤكّد أنّ التّجربة صعبة ومؤلمة،وينقل إلينا مكابداته في هذه التّجربة؛إذ أنّه الإنسان الأوّل الذي يعاين هذه التّجربة،ويدخل في تهويماتها وشطحاتها”. ولكن ما يعني سناء شعلان الرّوائيّة من هذه الشّطحة العلميّة المفترضة ما تتوافر عليه من تخييل وأسئلة إبداع ومساحات توقّعات وميادين جدال؛فعبر هذه الشّطحة انتقل عقل “باسل المهري” إلى جسد “شمس”،وبدأت مغامرته الصّغرى مع عشقها،كما بدأت مغامرته الكبرى مع أسئلة الوجود والحياة والموت والتّحرر والإنسانيّة والمدنيّة والخلود والسّعادة والجسد والنّماء؛فهذه الشّطحة قادت الرّواية إلى البحث عن سرّ سعادة البشريّة الذي لا يمكن إلاّ أن يكون في الحبّ،ولاشيء غير الحبّ.
—