“الرّجل عندما يكون رحلة عطاء،والرّحلة عندما تكون خلوداً”..
بقلم الأديبة الأردنيّة د.سناء الشعلان /
في العاصمة الأردنية عمان صدرت الطّبعة الأولى من كتاب”رحلتي مع جامعة الكوفة” للأستاذ الدّكتور عبد الرّزاق عبد الجليل العيسى.وقد وقع الكتاب في 416 صفحة ملوّنة من القطع الكبير.وتكوّن الكتاب من ستة فصول وأربعة ملاحق,وقد عُقدت هذه الفصول والملاحق تحت عناوين:الفصل الأوّل”البداية والمسيرة”،الفصل الثّاني “مواقف لا تنسى”،الفصل الثّالث”استراتيجيّة إدارة الجامعة”،الفصل الرّابع”مسيرة الجامعة وتطوّرها”،الفصل الخامس”بعض مظاهر التّميّز في جامعة الكوفة”،الفص السادس”استقلاليّة الجامعة والتّحدّيات”،الملحق الأوّل”رحلتي مع جامعة الكوفة في صور”،الملحق الثّاني”رحلتي مع إعمار الجامعة في صور”،الملحق الثالث”أصداء وتغطيات إعلاميّة لرحلتي مع جامعة الكوفة”،الملحق الرّابع”رحلتي مع جامعة الكوفة في عيون من عاصروني”.
والدّكتور العيسى الذي يشغل الآن منصب المستشار الثّقافي العراقيّ في الأردن كان قد شغل عدّة مناصب مرموقة في خدمة العراق،منها منصب المستشار الثّقافيّ العراقيّ في لندن،ورئيس جامعة الكوفة العراقيّة لست سنوات،وغيرها من المناصب الأخرى،كما أنّه حصل على عدّة ألقاب علميّة وتربويّة وأكاديميّة رفيعة،منها:لقب أفضل رئيس جامعة في العراق للعام 2010،ولقب الأستاذ المتميّز علميّاً والمعروف عالميّاً للأعوام2008 و2009،فضلاً عن حصوله على عشرات الجوائز والتّكريمات والدّروع.وعضويّة المجالس والأنديّة والمؤسّسات والمجلات والمنتديات الفكريّة والعلمّية والتّربويّة والبحثيّة،إلى جانب مشاركته في عدد كبير من المؤتمرات والنّدوات وورش العمل والمبادرات،ونشره الأبحاث العلميّة الرّصينة باللغة العربيّة والإنجليزيّة ومشاركته في الأعمال الخيريّة والخدمة المجتمعيّة،والإشراف على الأطاريح والرسائل العلميّة والمؤتمرات والمبادرات والأبحاث العلميّة والمنشورات الأكاديميّة والعلميّة والإعلاميّة التّربويّة.
وقد تصدّر الدّكتور العيسى كتابه بقوله:”لم يكن حلمي ومشروع حياتي أن أدير مؤسّسة حكوميّة ما،أو أن أتبوّأ مركزاً رفيعاً في الدّولة؛فهذه ليست أحلام رجل يبغي الخلود،وحفر اسمه في سِفْر التّاريخ والحضارة والعلم،إنّما كان حلمي أن يكون علمي وعملي حجّة لي بين يدي ربّي ،وأن تكون لي يدٌ بيضاء طاهرة على أبناء وطني،وأن أشارك مشاركة مخلصة في بناء الإنسان العراقيّ عبر مشروعي التّربويّ والتّنمويّ في التّنميّة البشريّة.وهذا لا يكون إلاّ بالعلم؛فوحده الذي يخلق الإنسان،ويصنع الحضارة،ويبني المجد،ويكتب اسم الوطن بماء الخلود”.
هذا الكتاب يقول صراحة ليس هناك خلود في سِفْر البشريّة دون التّقيد بشرطه الأزليّ،وهو العطاء بهدف خدمة الإنسانيّة وبناء معمار البشريّة ودفعها نحو مدارج الحضارة والمدنيّة والرّقيّ والإبداع والإخلاص في إيثار الآخر على الذّات وتقديم الجماعة والأمّة على الفرديّة والمصلحة والمكسب الشّخصيّ،ولما كان العطاء وفق هذه المعطيات صعباً ونادراً،ولا يتقنه إلاّ قلّة من البشر،كان الخلود نادراً عزيزاً لا يدركه إلاّ صفوة البشر ونخبة من أنجبت الإنسانيّة من أبنائها الرّواد.
وعندما تغدو حياة إنسانٍ ما رجلاً كان أم امرأة رحلة عطاء فإنّه دون شكّ يكون إنساناً قد قرّر بإصرار وعزم أن يحفر اسمه في مسلّة الخلود،ورام دون انقطاع أو كلل أو توانٍ أن يضع لبنة مهمّة في معمار المنجز الإنسانيّ،ومن يرافق الدّكتور عبد الرّزاق عبد الجليل العيسى في كتابه “رحلتي مع جامعة الكوفة” يدرك أنّ درب الخلود صعب،وأنّ الإنسان عندما يحمل نبراس العلم والإصلاح والبناء عليه أن يقدّم نظير ذلك تضحيّات عملاقة من عمره وراحته وسعادته وأحلامه وأفراحه الشّخصيّة ومكاسبه الذّاتيّة،ويخلص في نهاية المطاف إلى أنّ رحلة الحضارة هي رحلة الخلود.
هذا هو الشّعور الذي رافقني منذ بدأتُ رحلة المراجعة اللّغويّة لهذا الكتاب ،وقد خلتُ أنّ الأمر هينٌ سهل المنال،ولكّنني وجدتُ نفسي أحار ماذا عليّ أن أكتبَ عن كتاب هو رحلة إنسان نحو الخلود والبقاء وانتصار الزّمن على الفناء كما هو انتصار المنجز على الجغرافيا والتّحدّيات والتّابوات والمعيقات وأعداء الإصلاح والإبداع والإنسان والوطن والخير والنّماء, لكّنني انتصرتُ على حيرتي هذه عندما رأيتُ أنّ الكتابة عن الخالدين والخلود هي ضربٌ من المتعة والتّطهّر من أدران الواقع المدنّس بالعابثين والمفسدين والخائنين.
لا أستطيع أن أدّعي الحياديّة والموضوعيّة وأنا أكتبُ كلماتي هذه،إنّما أشعر بانحياز مشرّف تجاه رحلة الدّكتور العيسى التي لا يملك الإنسان إلاّ أن ينظر إليها بإكبار وتقدير وإجلال وهو يواكب تفاصيلها،ويعايش محنها،ويشهد منجزاتها ومفاخرها،أنا بحقّ أشعرُ بالفخر والاعتزاز وأنا أقدّم لكتاب هو في واقع الحال أنموذج لمسيرة تستحقّ الاحتذاء والتّكرار بل وتعليمها لمن أراد أن يسير على منوال البناء،وأراد أن يخوض تجربة بناء جامعة رياديّة تضطلع بدورها التّربويّ والتّعليميّ والحضاريّ والوطنيّ والإنسانيّ بل والأخلاقيّ.
ومن هذه النّقطة بالتّحديد تبدأ أهميّة الكتاب؛فهذا الكتاب ليس مجرّد سيرة ذاتيّة لمنجِزٍ مُقدّر،وليس بطبيعة الحال مذكّرات غافية في النّسيان،بل هو يشكّل علامة وحالة نادرة في تاريخ العمل الجّامعيّ والإدارة الجامعيّة،كما يعدّ منهجاً في البناء،ونستطيع أن نقول إنّه الكتاب الأوّل من نوعه- في حدود علمي ومطالعاتي ومعرفتي- الذي يقدّمه رئيس جامعة عربيّة حول تجربة قيادة جامعة عربيّة،والانتقال بها من مجرّد جامعة بكليّات متناثرة في الأحياء السّكنيّة لمدنية النّجف وبعدد مبانٍ لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة ومساحات أرض فارغة وآمال مهدورة ومبانٍ غير كافية أو مناسبة وكوادر غير مدرّبة إلى جامعة رياديّة تحصد المرتبة الأولى على مستوى الجّامعات العراقيّة،كما تحصّل أرفع المراتب بين الجامعات العربيّة إلى جانب تحقيق مراتب متقدّمة ومشرّفة في كثير من التّصنيفات والتّقييمات العالميّة.
فنحن لم نشهد من قبل رئيس جامعة عربيّة يقرّر أن يكرّس وقته صادقاً لأجل أن يضع تجربته كاملة بين يدي من يرغب في الاستفادة منها؛فطالما اعتدنا على أن ترحل التّجربة مع رحيل صاحبها،وتهدم المسيرة بعد إبعاد قائدها،ولذلك لقلّما شهدنا العمل المؤسّسيّ في مجتمعاتنا العربيّة التي تهوى أن تهدم ما بناه غيرها،لتبدأ من الصّفر من جديد،بدل أن تكمل المسيرة بعد من بدأها،ولذلك لا نراوح مكاننا في مدارج الحضارة،في حين يجري الآخرون في مدارجها بخطىً عملاقة،ويتركوننا خلفهم أمّة تتغنّى بمجدها البائد،وتقف على أطلال عظمائها ومآثرها،وتبكي على واقع حالها.
ولكن الدّكتور العيسى صمّم على أن يكون حالة خاصّة في مفهوم العطاء والتّعليم والتّغذية الرّاجعة والمشاركة بالتّعلم وتبادل الخبرات وتعميم التّجربة الإنسانيّة ومشاركة خطط النّجاح وإشهار ملامح الفشل وهنات التّقصير لأجل القضاء عليها في الخطط المستقبليّة،ولذلك قام بكلّ جرأة وتفانٍ وصدقٍ برصد تجربته في بناء جامعة الكوفة بكلّ ما فيها من ملامح ومنجزات وتحدّيات،وقدّم لنا كتاباً سحريّاً يمكن أن نسمّيه” كيف تبني جامعة ناجحة؟”.فهذا الكتاب يصلح أن يكون درساً استراتيجيّاً لكلّ من بغى أن يبني مؤسّسة تعليميّة،وأن يستثمر الإنسان والأرض والتّاريخ والجغرافيا والعلم والمعطيات لأجل الرّهان على مستقبل مزهر عبر بناء الإنسان واستثماره.
والطّريف في هذا الكتاب أنّ مؤلّفه تكلّم فيه بكلّ صراحة ووضوح وشفافيّة،وباح بتفاصيل تجربته كلّها دون انتقاء أو إقصاء،بل اعترف بمواطن النّجاح والفشل،وقيّم التّجارب والمراحل،وفصّل في الأسباب والمعطيات،وحلّل الظّروف والأفعال،وقدّم لنا صورة كاملة وصادقة للمشهد الجامعيّ في جامعة الكوفة بسلبياته وإيجابياته كلّها دون تكتّم أو إخفاء أو تجميل.
أستطيعُ القول إنّنا في حاجة إلى مبادرات مشابهة من المبدعين والبناة والمربّين والقياديين لأجل تزويد النّشء بخطط ودروس ومناهج واتّجاهات ومبادرات تفيدهم في بناء منجزهم الحضاريّ،وتعفيهم من التّخبّط والوقوع في الأخطاء التي وقع فيها من قبلهم؛فتراكم الخبرات وتبادلها –كما هو معلوم- ليست قيماً تاريخيّة وحسب،بل هي أرثٌ إنسانيّ في ضروب النّجاح،وخارطة طريق للبشريّة كي لا تكرّر أخطاء السّالفين،وتعويذة إنجاز وحظّ للعاملين.
ويبدو أنّ مؤلّف هذا الكتاب قد حدّد هدفه قبل أن يشرع في تأليفه،ولذلك فقد التزم بهذا الهدف عبر منهجيّة واضحة محدّدة الملامح تقودنا في رحلة زمنيّة تعرّج على تفاصيل الوصفة السّريّة لـ “بناء جامعة ناجحة”،وتهب تفاصيل دقيقة لذلك،يقدّمها المؤلّف بصدق وحياديّة دون مبالغات أو مجاملات أو استعراض،وهذا ما يجعل الكتاب يتّجه نحو التّجربة الجمعيّة،وينتصر على الذّاتيّة وتمجيد الذّات؛فمؤلّفه لا يبحث عن أكفٍّ تصفّق له،ولا يبغي تكريماً أو شهادة له،وقد نالها جميعاً،وهو من حصل على لقب رئيس الجامعة المتميّز والمعروف عالميّاً،ولقب الرّئيس الجّامعيّ المتميّز بين رؤساء الجّامعات العراقيّة قبل أيام من انتهاء فترة إدارته لجامعة الكوفة التي بدأت في 7/5/2006،وانتهت في 19/7/2011،واسمه محفورٌ في ذاكرة كلّ من عمل معه،كما هو محفورٌ في سِفْر الجامعة بكلّ منجزاتها ومآثرها وتميّزاتها،ولكنّه بكلّ تأكيد كان يبغي أن يقدّم تجربة خالصة وكاملة لكلّ من أراد أن يسترشد بها في بناء مماثل أو تجربة تحاكي تجربته أو يريد أن يأخذ الدّروس والعبر والفوائد منها في سبيل أن يقوم بواجبه المقدّس في خدمه وطنه وشعبه وإنسانيّته،بل يمكن أن يكون هذا السّفْر منهجاً استراتيجيّاً لجامعة الكوفة في القادم من منجزها ومستقبلها لاسيما أنّ الكثير من الخطط والمشاريع التي بدأها الدّكتور العيسى في جامعة الكوفة لا تزال في طور الإنجاز والتّحقيق،وتحتاج إلى أن تُستكمل كي تستوفي خطّة البناء المأمولة مراحلها جميعاً؛فهذا الكتاب خطّة للقادم من مستقبل هذه الجامعة،لا كتاب تاريخ للماضي البائد.
ومن ناحية ثانية يمكن القول إنّ هذا الكتاب هو وثيقةٌ تاريخيّة شاهدة على حقبة مهمّة في التّاريخ الحديث للعراق،كما هو سجلٌ لتجربة الإنسان العراقيّ بما فيه من معاناة وتحدّيات وألم وحرمان وظلم في ظلّ أنظمة استبداديّة جائرة استحلّت اغتصاب حقّ الإنسان العراقيّ وسرقة عمره وتبديد أحلامه دون رادع عبر عقود طويلة من الاستلاب،إلى جانب أنّ هذا الكتاب يشكّل شهادة شاهد عيان على المشهد التّعليميّ الجامعيّ العراقيّ بكلّ ما فيه من تحدّيات ومشكلات ومعضلات وأحلام وطموحات وممكنات وإكراهات؛هذا الكتاب باختصار شهادة على عصر وحقبة من تاريخ العراق والنّجف وجامعة الكوفة وأهلها وتدريسييها وموظفيها وطلبتها بكلّ صدق وإخلاص وحياديّة،إنّه تجريم لمن يستحقّ التّجريم،وتمجيد لكلّ من يستحقّ التّمجيد،وتصويب لكلّ ما يستحقّ التّصويب،وتكريس لقيم الإنجاز والإبداع والتّشجيع والإخلاص والمحبّة والتّسامح والبعد عن الفرقة والطّائفيّة والإقليميّة والعنصريّة بأشكالها جميعاً.
والأمر اللاّفت للنّظر في هذا الكتاب أنّ مؤلّفه كان يتكلّم بكلّ صدق عن تفاصيل تجربته في جامعة الكوفة التي بدأت منذ عام 1980 عندما عُيّن تدريسيّاً في كليّة الطّب،وانتهت في يوم 19/7/2011 عندما غادرها بعد أن كان رئيسها منذ يوم 7/5/2006،ولذلك فهو لا يخجل من أن يتكلّم عن معاناته الشّخصيّة وعن معاناة غيره،كذلك يحلّل النّتائج في ضوء عرض المعطيات والأسباب بكلّ وضوح وصراحة،وهو ينقل إلينا التّحديات التي واجهته في العمل في الجامعة ومن ثمّ في إدارتها مبيّناً وشارحاً وتاركاً لنا الحكم عليه وعلى تجربته وعلى رحلته في ضوء النّتائج والمآلات والنّهايات دون أن يخشى لومة لائم أو تهديد متسلّط،وكأنّه يقول لنا بملء فيه : “من يرد الإصلاح لا يخشى في الحقّ لومة لائم”.
وهذا الالتزام الواضح بالمصداقيّة يجعله يوثّق التّفاصيل بالأسماء والتّواريخ ويعرضها وفق مشهدها التّاريخيّ والاجتماعيّ والنّفسيّ،كما يجعله يعزو الفضل إلى أهله دون جحود أو إقصاء أو نكران،فيذكر أسماء ومواقف كلّ من ساهم في دعم بناء جامعة الكوفة أو قام بدور رياديّ أو أخلص في عمله أو أبدع في إخلاصه،وهو بذلك يوزّع نجاح إدارته على كلّ من ساهم في ذلك دون أن يستأثر بالفضلّ كلّه لنفسه،وهذا مخالف لعقليّة المسؤول العربيّ التي تسند في الغالب – للأسف- النّجاح كلّه إلى ذاتها،وتنكر جهود الآخرين جملة وتفصيلاً.
ومن ناحية أخرى تدهشنا متابعة المؤلّف لأدقّ التّفاصيل في عمليّة بناء جامعة الكوفة،فنحن لا نقرأ في كتاب رجل مرّ في تاريخ جامعة ما،أو مرّت الجامعة في سيرته،بل نقرأ كتاباً يؤّرخ لحياة إنسان متلخّصة في منجزه في هذه الجامعة،حتى نجده يعمل في أيّام العطل لساعات متأخّرة من الليل،ويأخذ عمله إلى بيته،ويهجر النّوم ليعمل ليل نهار طوال سنوات ليحوّل الجامعة من حلم بعيد إلى واقع حقيقيّ ملموس.ولذلك نجده يتابع كلّ مرحلة،ويشارك في تفاصيل كلّ خطوة ،ويتشاور مع الثّقات والمراجع والمتخصّصين وأهل التّجربة والخبرة والعلم والإبداع في سبيل تحصيل الأفضل وتحقيق الأمثل،ويقرّب منه كلّ من يريد أن يعمل بإخلاص،ويتصدّى لكلّ فساد أو تهاون أو إهمال،وفي الوقت ذاته يكون شاهداً على كلّ نجاح،وحاضراً لكلّ بداية وانطلاقة،وداعماً لكلّ عمل؛فهو ليس أسير مكتبه في رئاسة الجامعة،بل حاضراً في كلّ ميدان وفعاليّة ومؤتمر وتظاهرة،ومشاركاً متفاعلاً في كلّ مشروع رائد يحتاج إلى دعمه.بل نجده يعرف أسماء بعض طلبة الجامعة المبدعين،ويدعمهم في مشاريعهم وإبداعاتهم وتميّزاتهم،كما هو يرصد كلّ حدث صغيراً كان أم كبيراً دون أن تفوته شاردة أو واردة.
ومن هذا المنطلق نجد الكتاب يزخر بالإحصاءات والجداول والأرقام الدّقيقة والتّواريخ والوثائق والمرفقات والصّور التّوضيحيّة التي يقيّد بها مسيرة البناء لتكون مرشداً لمن أراد الاسترشاد،وهذا أمرٌ قلّ أن نجده عند مسؤول عربيّ ما؛فقد اعتدنا على الصّورة السّلبيّة السّائدة عند المسؤول العربيّ الذي ينام في العسل،ولا يستيقظ منه إلاّ عند خروجه من وظيفته دون أن يقف على أمر ما،أو يتذكّر أيّ تفاصيل مهما بلغت أهمّيتها.
ولا نرى الجامعة في هذا الكتاب من منظور داخليّ ضيّق،وكأنّها مجتمع افتراضيّ مفصول عن بعده المجتمعيّ،بل نرى الجامعة عبر مساحاتها المجتمعيّة وعلاقاتها الإنسانيّة وملامح المجتمع النّجفيّ بخصوصيته ومعطياته كلّها،فنرى الجامعة تدخل في شراكات مع المجتمع المحليّ،وتقدّم خدمات كثيرة له في قطاعات متعدّدة من منطلق شعارها “التّنميّة البشريّة وخدمة المجتمع بحلّ مشاكله”،كما نرى رجالات المجتمع النّجفيّ المخلصين يقدّمون خدماتهم لهذه الجامعة،ويحرصون على حضور فعالياتها،ويشاركون فيها،ويدعمون مسيرتها.
وفي هذا الكتاب نستطيع أن نرى تجربة رائدة في الخروج بالجامعة من المحليّة الضّيقة المفروضة بحكم نظام استبداديّ قمعيّ إلى فضاءات العالميّة بكلّ ما تتيح من اتّصال مباشر بالعلم وجديده ومعطياته،فالجامعة التي رفعت شعار” لنبدأ من حيث انتهوا” قد حرصتْ على أن تطّلع على تجارب الجامعات العالميّة في حقلي التّعليم والإدارة الجامعيّة،ولذلك كان هناك توقيع اتفاقيّات،وتبادل كوادر،وإرسال دورات،وتكثيف التّواصل المباشر والحوار المفتوح عبر افتتاح قاعات المؤتمرات الفيديويّة المشتركة عبر الأقمار الصّناعيّة التي امتدّت خدماتها إلى تشكيل مؤتمرات تجمع طلبة إعداديّات النّجف الأشرف وإعداديّات من دول شتّى،دون الاقتصار فقط على طلبة الجّامعات.
وقد وقع الكتاب في مقدّمة وستة فصول وأربعة ملاحق؛ففي الفصل الأوّل منه استعرض المؤلّف بداية رحلته مع جامعة الكوفة عندما عُيّن تدريسيّاً فيها في عام 1980 بعد أن عاد إليها يحمل درجة الدّكتوراه في الكيمياء العضويّة المعدنية من أرقى الجّامعات العالميّة في بريطانيا،وهو يعرض في الفصل مسيرته الأكاديميّة العلميّة والأكاديميّة والإداريّة موثّقة بالشّهادات والوثائق الرّسميّة.أمّا في الفصل الثّاني المعقود تحت عنوان “مواقف لا تنسى”،فهو يعرض ملامح رحلته في جامعة الكوفة عبر التّوقّف عند محطات:رئاسة فرع الكيمياء الحياتيّة،واللّجان الامتحانيّة والتّدقيق،والتّغيير والتّرديّ في القيم الأكاديميّة،ورئاسة لجنة استحداث كليّة الصّيدلة،وواجبات ومهام وإشكالات،وحماية الجامعة والحفاظ على ممتلكاتها خلال أحداث عام 2003،وانتخابات القيادات الإداريّة في الجامعة،وإدارة الجامعة بعد الانتخابات،وانتخابه عضواً لمجلس المحافظة،وتكليفه برئاسة الجامعة.
أمّا الفصل الثّالث من الكتاب فهو يرصد استراتيجيّة المؤلّف في إدارة جامعة الكوفة بكلّ تحدّياتها وخططها وآليّات إنجازها مع رصد ملامح الإنجاز والتّطوّر والابتكارات والإنجازات الجديدة وفق برامج عملها وخطوات إنجازها.
في حين أنّ الفصل الرّابع المعقود تحت عنوان ” مسيرة الجامعة وتطوّرها يأخذنا في رحلة في مسيرة تطوّر الجامعة عبر زيارة وحداتها جميعاً،ورصد مراحل إنجازها وتطوّرها واستحداثها وتوسّعها،وهناك وقفة تفصيليّة عند تكوين وتطوّر ونماء الكليّات التّالية:كليّة الفقه والطّبّ والتّربية للبنات والآداب والإدارة والاقتصاد والعلوم والهندسة والزّراعة والصّيدلة والقانون وطبّ الأسنان والتمّريض والطّبّ البيطريّ والرّياضيّات والحاسوب والتّربية الرّياضيّة والآثار والتّراث والتّخطيط العمرانيّ والأقسام العلميّة وأقسام الدّراسات العليا والمراكز والوحدات البحثيّة.فضلاً عن الوقوف عند تزايد أعداد الطّلبة والمراكز التّدريبيّة واستحداث الخطط التّطويريّة والمراكز والمكاتب الاستشاريّة التّعليميّة والبحثيّة والمختبرات والمكتبات.
وهو يعرض لنا النّشاطات العلميّة للجّامعة والمؤتمرات والنّدوات والحلقات الدّراسيّة وتطوّرها فضلاً عن الحديث عن التّرقيات العلميّة والإيفادات والبعثات والزّمالات والاتّفاقيّات الثّقافيّة والفعاليات والنّشاطات اللامنهجيّة والمبادرات والتّطوّر في الخدمات الفنيّة والثّقافيّة والعلميّة .
أمّا الفصل الخامس المعقود تحت عنوان ” بعض مظاهر التّميّز في جامعة الكوفة” فهو يعرض ملامح الإنجاز والتّطور في الجامعة عبر التّوقّف عند خطط هذا المنجز وعرض استراتيجيّته وخطواته ومراحله.
أمّا الفصل السّادس فهو معقود تحت عنوان ” استقلاليّة الجامعة والتّحدّيات”،وهو يعرض بصراحة وجرأة معركة المؤلّف إبّان رئاسته لجامعة الكوفة من أجل تحقيق استقلاليتها متحدّياً جملة من العوامل الضّاغطة التي تدفع الجامعة نحو عدم استقلاليتها،وقد قسّم المؤلّف هذه المرحلة على فترتين زمنيتين،وهما:فترة ما قبل عام 2003م،وفترة ما بعد عام 2003م.
وفي الملحق الأوّل من الكتاب يأخذنا المؤلّف في رحلة مع جامعة الكوفة عبر استعراض صور من هذه المسيرة من أرشيفه الشّخصيّ.
وعند هذه الصّور يتركنا المؤلّف لا نملك إلاّ أن نعجب بهذا الإنسان الأبّ والمربي والمواطن المخلص الذي عرف كيف يخلد في ذاكرة وطنه وشعبه وكلّ من عرفه،وهو من يقول برضا وهدوء وثقة وسلام مع النّفس والآخر :” لقد راهنتُ على إخلاصي وعلمي وحلمي وعلى بناء الإنسان العراقيّ،وبذلتُ جهدي موفوراً من صحتي ووقتي وفكري وعمري وعملي وشبابي ومالي،وجرتُ على راحتي وجسدي وأحلامي الشّخصيّة وحاجاتي الإنسانيّة وحقوق أسرتي لأجل أن أكون المربيّ المخلص والمواطن الصّالح”.
أمّا الملحق الثّاني من الكتاب المعقود تحت عنوان”رحلتي مع إعمار جامعة الكوفة” فقد عرض بالصّور الفوتوغرافيّة بعض أهم مراحل الإعمار والبناء في جسم مباني جامعة الكوفة.في حين أنّ الملحق الثّالث من الكتاب المعقود تحت عنوان ” أصداء وتغطيات إعلاميّة”،فقد قام بمتابعة مادتّه وجمعها وائل عليّ الطّائي الذي بذل جهداً واضحاً في رصد أصداء نشاطات الدّكتور العيسى إبّان كان رئيساً لجامعة الكوفة في وسائل الإعلام مقدّماً بذلك مساحة إلكترونيّة خصبة شاهدة على هذه الحقبة من الإنجاز،وللقارئ أن يطّلع عليها،ويحكم على منجزها.
وأخيراً جاء الملحق الرّابع معقوداً تحت عنوان ” رحلتي مع جامعة الكوفة في عيون من عاصروني” ليقدّم لنا بعض شهادات لبعض من عاصروا تجربة الدّكتور العيسى في إدارة جامعة الكوفة وخدمة المجتمع الكوفيّ.
ومن الواضح أنّ ترتيب الفصول بهذا الشّكل يعطينا مراحل تدرّج مشروع إدارة الجامعة وفق خطط شاملة للإصلاح والبناء والتّطوير وتحقيق الجّودة والتّميز،فهذا التّرتيب هو خطّة عمليّة وفق أمثلة ونماذج إبداعيّة لكيفيّة قيادة جامعة نحو النّجاح،ومن كان يبحث عن منهج لذلك أو مراحل متدرّجة مرتّبة عمليّاً فعليه أن يطّلع على هذا الكتاب الذي يبدأ بعمليّة البناء من البنية التّحتيّة،ويتدرّج بها إلى أن يصل إلى تنمية الإنسان واستثمار المعطيات كاملة وفق منظومة الحاجات والمتطلّبات والمأمولات.باختصار هذا الكتاب هو الوصفة السّحريّة التي يملكها المؤلّف لخلق جامعة تحقّق أهداف وجودها.
ومن يملك بعد قراءة هذا الكتاب ألاّ يعجب برجلٍ اختار أن تكون حياته رحلة للعطاء والجمال والمحبّة والخير؟! هذا هو الدكتور العيسى الذي أخلص لمدينته النّجف،ولجامعة الكوفة،ونال الخلود بعمله الموصول المخلص.فطوبى له من مربٍّ مخلص أمين.
إنّ هذا الكتاب لم يكن في نظري مجرّد وثيقة عصر أو ذخيرة حقيقيّة تشكّل إضافة نوعيّة إلى المكتبة العربيّة لاسيما التّربويّة والإداريّة منها،ولم يكن كذلك تجربة عمليّة نادرة وحسب يخطّها تربويّ وإداريّ عريق لأجل أن يقدّم تجربته بكلّ إخلاص لغيره من باغي الإحسان والإجادة والإصلاح والإخلاص،بل كان لي بمثابة الدّرس الأخلاقيّ والتّعليميّ والإنسانيّ في الحياة؛لقد كان من حسن طالعي أن تولّيتُ مراجعة هذا الكتاب لغويّاً،ومن هنا بدأتْ رحلتي مع هذا الكتاب الذي شكّل إضافة حقيقيّة إلى رصيد تجاربي ومفاهيمي وأولوياتي وإلى حصيلة معارفي وأفكاري وآمالي،لقد تعلّمتُ الكثير من الدّكتور العيسى ومن كتابه ابتداءً ومن تلك الحوارات المطوّلة التي دارت بيننا أثناء فترة المراجعة اللّغويّة للكتاب،فأدركتُ حينها إدراكاً حقيقيّاً نابعاً من معرفتي به أنّ هناك بشراً لا يزالون ثابتين على مواقفهم الأخلاقيّة الرّفيعة على الرّغم من الإغراءات والإكراهات،وعلمتُ –آسفة- كم دفع من أثمان باهظة مقابل ثباته على مبادئه طوال حياته؛فقد عانى كثيراً من الاضطهاد والظّلم والاستلاب هو وأسرته في أثناء النّظام السّابق الحاكم في العراق،ولكنّه ظلّ على الرّغم من ذلك مصمّماً على البقاء وطنه العراق وهو من يملك الكثير من الفرص المغرية كي يعمل ويعيش في دول الخارج في أفضل الظّروف،ولكنّه صمّم على أن يعيش في وطنه،وأن يخدمه وهو الذي أخذ منه أخاه سعداً شهيداً وعدداً من أبناء عمومته،كما أخذ منه أخاه إياداً معتقلاً سياسيّاً لبضع سنين،وبعد ذلك تتالت الأثمان الباهظة التي دفعها دون توقّف لكثير من قوى الظّلام الغاشمة الظّالمة مقابل إصراره على مواقفه الأخلاقيّة الثّابتة في الحياة والعمل والفكر والتّعليم والإنتاج والإدارة.وما بالى بخسائره جميعاً،وما انحنى لظالم،وما هادن فاسداً،وما رافق جائراً،وظلّ ذاته بكلّ ما فيها من طهارة وعفّة والتزام بالمبدأ،فطوى النّسيان والعار من حاربه،وظلّ هو أبيض نقيّاً دون أن تدنّس تاريخه الطّويل شائبة أو وصمة انتقاص أو إساءة.
كثيراً ما كنتُ أسأل الدّكتور العيسى كيف استطعتَ أن تحتمل هذا القهر كلّه؟! فكان يبتسم ابتسامته الهادئة الطّيبة التي يعرفها كلّ من قابله،ويقول لي بثقة واطمئنان:”إنّ الله مع النّاس الخيّرة الطّيبة”.فتشيع في نفسي أجمل معاني الإيمان العميق بأنّ الله لا يتخلّى عن عباده الطيّبين.
تعلّمتُ من الدّكتور العيسى كيف يكون الإنسان كبير الرّوح والنّفس والأمنيات والأمل والإصرار على الرّغم من ضيق الظّروف والمعطيات،وكيف يكون كريماً محبّاً متسامحاً على الرّغم من ضنّك الحياة،وكيف يستدعي الإنسان أجمل ما في نفوس طلبته وزملائه ومحبّيه وأقاربه من معاني الخير والعطاء عبر الحثّ والصّبر والملازمة الدّاعمة لهم والقدوة الحسنة،لقد أصبح عرّابي الذي يقودني نحو المحبّة والخير والعطاء،ويلحّ على نفسي وعلى أنفس من يعرفونه لأجل القيام بأدوارهم الإنسانيّة بكلّ إيجابيّة وإخلاص،وعلّمني كذلك أنّ الإنسان الحقيقي هو أكبر من الحقد واليأس والضّعف والعنصريّة بأشكالها كلّها،بفضله غدتْ عندي مفاهيم جديدة حول الإنسان الحقيقيّ والرّجل الشّهم والمربي الفاضل والمؤمن الذي لا تهزّ الصّعاب إيمانه وإخلاصه وصدقه.
هذا الكتاب لم يكن كتاباً مرّ في حياتي أو مررتُ في تاريخه،بل كان مدرسة لي،علّمتني أن أكون أكثر إيماناً بنفسي وبالآخر وبقيم الحقّ والعطاء،أمّا الدّكتور العيسى فقد علّمني بكلّ إخلاص أن أكون إنسانة بحقّ،وهذا أجمل درس تعلّمته في هذه الحياة،فشكراً لك يا دكتور عبد الرّزاق العيسى لأنّك جعلتني أعبر إلى مرحلة أرقى من نفسي بفضل التّعلم منك والنّهل من معين قلبك الكبير الذي يتّسع للدّنيا قاطبة ثم تظلّ فيه مساحات شاسعة تتّسع للمزيد من البشر الباحثين عن إنسان حقيقيّ لا يتكرّر هو أنت.
بسم الله الرحمن الرحيم
نبارك للاستاذ الدكتور عبدالرزاق العيسى هذا المنجر بهيأة كتاب بعد ما حققه على الواقع في جامعتنا فكانت رحلة مباركة ومثمرة لجهود تستحق الشكر والثناء … وقد عرفت الدكتور العيسى في 5 نيسان عام 2003 وسقوط النظام البعثي في مدينة النجف الاشرف فرأيته متطوعاً وباذلاً نفسه ومعرّض حياته للخطر من أجل حماية الجامعة وكلياتها من السرقة والعبث .. فأسعدني التعاون معه لأجل جامعتنا الغراء وقمنا بالمساعدة في إنجاح إنتخابات تدريسي جامعة الكوفة لأنتخاب رئيس جامعة جديد في العراق الجديد التي إجريت في قاعة غرفة تجارة النجف… فتحية حب وتقدير للدكتور ودعائنا له بدوام الصحة والتوفيق.
..
..
.. وشكرا جزيلاً للدكتورة سناء الشعلان لفيض قلمها المتميز ووصفها وكلماتها الجميلة.