عثمان وعراب :
لقد هاله أمر شيخ القبيلة. فلا تكاد عيناه تغفوان حتى تهتز أوصاله كمن خر من السماء فارتطم بالارض فجأة. وما عادت أذناه تنعمان بسكينة الليل وروحانيته، فجميع الأصوات تنفذان إليها من كل جانب، متوعدة تارة وموحشة كزءير الأسد تزرع الرعب في نفسه، ومقهقهة تارة أخرى حتى ليحسب أنه فقد عقله. يقوم من مقامه فيتوظأ ويركع ويتلو ما أتى على لسانه من آي وذكر وتسبيح…
تخطفه سنة يرى فيها أحد جيرانه بينما كانا يرتشفان الشاي مساء ذلك اليوم، وهو يحذره من سوء عاقبة أقواله وأفعاله، ويسشهد بحادثة تعود إلى صباه على ما يذكر أو كما حكاها له جده. كان للعم موحا بضع بقرات سمان لم يكن لأي من أهل القبيلة مثلهن، وكان يرعاهن بعناية في الصباح بعدما يفرغ من السقي ومن الأعمال الروتينية الأخرى، حتى يحين موعد صلاة الضهر فيدخلهن مهرعا إلى المسجد، الذي يواضب عليه. فلا يقوم بإخراج البقرات بعد الزوال كما يفعل غيره. ولهذا لم يسبق لأحد من قبل أن اشتكى يوما من جور بقراته كما هو الحال بالنسبة لجل الناس. واتفق له ذات يوم أن استدعاه الشيخ لمقره بعد صلاة العصر وهو يتجاذب أطراف الحديث مع أقرانه في حقله القريب من المسجد مستظلين بشجيراته. استغرب الكل هذا الطلب أول الأمر، إذ لم يكن العم موحا ليظلم قط أحدا، ولم ينتظروا قط من مثل هذه الطلبات خيرا. ابتسم العم موحا للرسول ومد له تفاحة قد أينعت، وطلب منه أن لا ينتظره على أن يلحق به.
عاش العم موحا طوال حياته يتيما، وكان يتبوأ مكانة عليا بين أهل القبيلة لا لجاهه ولا لماله ولا لنسبه، فهو نكرة على كل حال، لكنه كان ذا هيبة ووقار، يحسبه الجاهل غنيا من التعفف. ماتت عنه أمه وهو لم يفطم بعد، وما جلبه إلى القبيلة غير كهلين من أهلها حرما نعمة الأولاد، واعتنيا به أيما عناية حتى اشتد ساقه؛ وكانا يرضعانه مما تجود به الضرع، فاستحق بذلك عندهما لقب “ابن البقرة”. لكن هذه النعمة لم تدم عليه طويلا، إذ سرعان ما عاد إلى سابق عهده، يتيما، بعد أن رحلا عنه وهو لم يتم بعد العشرين، فورث عنهما بيتهما المتواضع وبضع رؤوس من الغنم والبقر.
لم يكن العم موحا شخصا يؤمن بالخرافات، ولا يصدق كل ما يروج على ألسنة الناس من إشاعات وأنباء إلا ما تآكد له. استقبله الشيخ، على غير عادته، بفرح وحبور مصطنعين لم يلق لهما العم موحا بالا؛ فمنذ وصوله وهو يرقب شفتي الشيخ تتحركان في حركة شبه دائرية، كما تصورهما العم موحا، أصابته بالدوار وكأنهما واحدة من تلك الألعاب الخادعة للبصر حينما تستمر في التحذيق فيها. كاد العم موحا أن يسقط من شدة الدوخة التي ألمت برأسه، وكأنها أفعى تتلوى على عنق فريستها محاولة خنقها. لم يكن صبره يطاوعه بالبقاء ولو فترة وجيزة في ذلك المكان المثير للغثيان، فبات يترقب لحظة النطق بالحكم، ليوفر عليه كل تلك العبارات المنمقة والتعبيرات المزيفة. وها لحظة الحقيقة قد حانت… أخيرا خرج الثعلب من مخدعه! “سي موحا، أنت رجل شريف ونزيه ولم يسبق لأحد أن اشتكى منك، أو ظلمت أحدا، أو ابتغيت ما ليس لك؛ وكنت دائما قانعا بالذي وهبه الله لك، شاكرا إياه على نعمته. وإني لما رأيت فيك من استقامة وطيبوبة وكرامة، أحسنت، وهكذا أنا دائما، الظن فيك. وحتى لا أطيل عليك، فغدا ينزل عندي ضيوف لا أحب إلا أن أكرمهم بما يليق بمقامهم، وسيكون في ذلك مصلحة لك وللجميع لما لهؤلاء من مكانة رفيعة. ولهذا ارتأيت أن نذبح بقرة على شرفهم، ولم أر في القبيلة أجود وأسمن من بقراتك.” وهكذا توقف الدوار فجأة وبقوة كاد معها العم موحا، كما يلقب من قبل الصغار والكبار على السواء، يفقد توازنه وكأنه يسير بسرعة فداس على الفرامل دقة واحدة. مرت برأسه فكرة غريبة: عجيب أمر هذا الزمان! فبعد أن كانوا يعطوننا فقط ليأخذوا منا، أصبحوا فقط يأخذون ولا يعطون! لكنه لم يبد أي أثر للصدمة والإنفعال، بل حافظ على رباطة جأشه، ورد على الشيخ: يا سيدي، أنت تعرف أني لا أملك غير بقراتي تلك، فهي بالنسبة لي ليست مجرد قطع لحم مكورة، هي عائلتي، بل هي كل حياتي. أنا أعرف جيدا أن موسم الإنتخابات قد أزف، وأنك لا محالة ستفوز كما عهدناك، وعهدنا آباءك وأجدادك، لكن يجب كذلك أن تراعي لحالي، فلا يخفى عليك شيء.
هكذا انفض المجمع، الذي افتتح كما تفتتح الأمسيات الشعرية، وانتهى بصمت على جو جنائزي مشحون بمشاعر الحزن والألم… أجواء جنازة سابقة لأوانها. لم يحدث قط لامرئ أن حزن على موته، أو شهد على جنازته، يوم يوليه الكل ظهره منصرفين إلى حال سبيلهم! هكذا انصرف العم موحا، بعد أن شيع نفسه، إلى بيته مرفوع القامة يمشي، وفي ذهنه يتراقص المثل المأثور “على الباغي تدور الدوائر.”
مضى في طريقه إلى منزله، والشفق الأحمر يلوح في الأفق، يمشي الهوينى، متأملا: كم توالى الليل بعد النهار، وطال بالأنجم هذا المدار؟ وحاله والناس من حوله تعاني المضار.
ما أن تم دفن العم موحا، الذي وجد في بيته ميتا وهو نائم، على ما يبدو، صباح اليوم الموالي، حتى بدأ الناس يتغامزون ويتهامزون وهم في حيرة من أمرهم؛ لم يصدقوا ما وقع! ما كانوا يحسبون، ولا يتمنون، أن يرحل عنهم العم موحا هكذا دون وداع. فمنهم من ترحم عليه وقال إنه مات ميتة هنيئة لم يعذب فيها، “موتة ديال الله”، خصوصا وهو يعلم أن العم موحا كان ينام على وضوء، فحسبه من الشهداء. وهكذا انطلقت الألسن محاولة تفسير ما حدث كل حسب فهمها وإدراكها، لعدم تقبلها لأمر كهذا؛ أما أعين الشيخ وآذانه في القبيلة فقد بدأت حملة تزرع فيها الرعب في قلوب الناس، على أن العم موحا أصابته لعنة الشيخ، فكان ذلك جزاؤه، كيف لا والشيخ شريف ابن شريف ابن شريف…! ومال مع هذا القول فئة لا بأس بها من الناس، ثم ما لبثوا أن بدأت الخرافات تسري على ألسنتهم كما تسري النار في الهشيم، وبهذا استحال العم موحا من رجل شهم وقور عاش كريما ومات كريما ليس بينه وبين أحد عداوة، إلى مجرد خرافة تنضاف إلى رصيد القبيلة والشيخ.
—
ليت العم موحا يعود يوما لاخبره ما فعله بنا الشيخ… رااااائع جدا اخي عثمان.