عبد الفتاح المطلبي :
لَطالَما وَقَفَتْ أمامَ صورةِ المرأةِ ذاتِ الخالِ وجنحَ بها خيالُها بعيداً نحوَ فراديسِ الأحلامِ، البناتُ هكذا يفعلنَ، يزرعنَ الأثيرَ من تلك الأحلام في حقول الليالي ثم ينتظرنَ المواسم ، تذكُرُ الملاحظةُ الصغيرةُ في أقصى الطرفِ الأسفلِ من جهةِ اليمينِ على اللوحةِ أنَّ الصورةَ المعلقةَ على يمينِ منضدةِ زينةِ والدتِها نسخةٌ من لوحةِ المرأةِ ذاتِ الخالِ (للرسام غويا) وعندما كانت في عامها العاشرِ تذكرُ أنّها كانت تجلسُ إلى تلك المنضدة ،تأخذ قلمَ التخطيط الزيتي وترسمُ خالاً على طرفِ فَمِها مقلدةً ابتسامةَ فتاةِ (غويا) بعد انتحالها المقارب لخالِ تلك الفتاة.
في الثامنةِ عشرة كادت تخطف الصورة من يد المرأة التي جاءت لتخطبها لابنها صاحب الصورة لولا أعِنّةِ الحياءِ الذي كانَ يَعتليها كفارسٍ مقتدر،ولم تكد المرأة تلقي بجسمِها خارجَ البيت حتى أغارتْ على الصورة التي تركتها أمها على المنضدة ،راحتْ تتأمل صورة العريس الذي خصّها باختياره من دون البنات بطلب يدها وقد قرّت عيناها بظهور نقطةٍ سمراء على طرف فمها أبعد قليلا من موقع خال الصورة ، تعلمت كيف تجعلها خالاً حقيقياً بعونٍ من قلم الفحم الزيتي الأسود، صورة العريس وجدتْ لها مكاناً في ربيع مخيلتها فانزرعتْ فيها طبقةً إثر طبقة مثل نمو بصلة تواصل ارتداء أقمصتها بمرور الأيام بينما تتسع وتنتفخ تلك النقطة السمراء في طرف فمها يوماً بعد آخر ، وهكذا وعندما حان يوم الزفاف ووقفت إلى جانبه أمام الجميع لم تنظر إلى عينيه واكتفت بما رسب من صورته في دماغها فهذا يومٌ عصيب تستنفرُ فيه ما تطيق من حياء البنات بينما كان هو ينظرُ إلى الخالِ الأسودِ على طرفِ فمها معتبرا ذلك ميزةً من مزاياها، هكذا التحقت إلى بيته ،في البداية كانت عنايتُهُ الفائقة بمظهره ولياقتهِ وإجادته اختيارَ عطرهِ قد منحت صورته شيئاً من الرسوخ في مخيلتها بينما كانت النقطة السمراء على طرف فمها تتسع وتبرز نافجةً من الجلد الأبيض الغضّ ولازال القلم الأسود يُغدقُ عليها لمحةً من جمالِ خال فتاة (غويا)، بعد عدة شهور تغير الرجل ،بدأ يسلك معها سلوك تاجرٍ قد تورط بصفقةٍ أكبر من قدراته ، صارمتبرما ومن ثمّ عنيفاً ولم يستطع مواصلةَ كياسةٍ مُدّعاةٍ،هجرالإهتمام بمظهره ولم تعد تشمّ منه ذاك العطر وراحت طبقات الصورة المزروعة في دماغها تتداعى طبقةً إثر طبقة مثل تقشير بصلة وكان ذلك يتطلبُ دموعا ، في اليوم الذي رفع كفه ليصفعها إثر خلافٍ شجرَ بينهما سقطت أقمصة البصلة تباعاً وانهمرت دموعها جراء ذلك فبدا مدبب الرأس لا تشبه فروة رأسه شعر الصورة التي أطالت النظر إليها يوما ما بينما لم يعد مجديا قلم الفحم الزيتي في إخفاء قبح الثؤلول الذي ظنّتْ أنه خالٌ جميلٌ مثل خال فتاة اللوحةِ وأقرت مع نفسها أنه مجرد ثؤلول لا يمت بصلةٍ لأي خال.
أرعبها أنها لا تستطيع إخفاء هذا الثؤلول الذي شوّه صفاء وجهها الجميل وأرعبها أنهُ من صميمِ بشرتها لا تستطيع الفكاك منه إلا باستئصالهِ بالخصوص حين لاحظت أن زوجها راح يكثر من التلميح بقوله أن عليها أن تراجع الطبيب من أجل هذا الثؤلول الذي كبر حجمه وبرز مثل زعرورةٍ قرمزيةٍ في زاويةِ فمها الجميل وعندما خلدت إلى النوم تلك الليلة كان صدى صوته الساخر من ثؤلولها يرن في أذنيها
استيقظت صباحا على همهمةٍ غير مفهومة تنطلق من سرير زوجها وحين التفتت إليه هالها أن ترى ما آل إليه منظره إثر خثرةِ دمٍ صغيرةٍ تسللت إلى دماغه ، تهدل فكه ومال بشكل ملفت إلى جهة اليسار وسقط جفنُ عينهِ اليُسرى فبان باطنه المحمر وجحظت كرةُ عينهِ ، أراد أن ينهض فلم يقدر على ذلك ، هرعت به مع بعض المعارف إلى الطبيب ، أدخل إلى المشفى وبقي هناك تحت إشراف طبي مستمر و بعدَ عدة أيام عادتْ به إلى البيت مع كثيرٍ من الوصايا والعقاقير، لم يعد ثؤلولها مثيراً للإهتمام بالنسبة إليه فقد شغله ما ألمّ به ولم يعد هذا الثؤلول إلا مدعاة للقلق بالنسبةِ إليها لكنها لاحظت بحسها الإنثوي البارع أن أمرا يجري لا تفهمه ، فكلما زاد حجم الثؤلول تدلى فك زوجها أكثر وفي مرحلةٍ متقدمة من نمو هذا الثؤلول شعرت بآلامٍ مبرحةٍ في زاوية فمها
فحص الطبيب شريحة الأشعة المغناطيسية لدماغ زوجها وبعض نتائج الفحوصات وارتسمت على وجهه حيرة كبيرة فما يجري على وجه مريضه لاتفسره نتائج الفحص ، اضطر الطبيب إلى أن يطلب منه إجراء فحوصاتٍ عميقة بينما كان ثؤلول زوجته يزداد حجما ويتدلى يوما بعد آخر، قصدت المشفى ، أخبرت الطبيب بتاريخ هذا الثؤلول منذ كان نقطةً سمراء حتى أصبح مثل زعرورة قرمزية قال الطبيب:
-ما كان عليك أن تفرطي باستعمال قلم الفحم الزيتي ، ربما كان أحد أسباب ما تعانينه ،غلبك وهْمُ خال فتاة (غويا) وها أنت ترين النتيجة،وبعد إجراءاتِ بسيطة شقّ مشرط الجراح جلد وجهها الرقيق واستأصل ذلك الثؤلول في تمام الساعة العاشرة والنصف صباحاً، ثم أردفَ:
-الآن لم يعد هناك ثؤلولٌ لكنه سيترك أثرا صغيرا ربما لا تستطيع إخفاءهُ أقلام االفحم الزيتية، ثبت الطبيب شريحتي الضماد على مكان ثؤلولها و قفلت راجعةً فوصلت في غضون ساعةٍ إلى البيت
كان الناس يتجمهرون قرب بيتها ، ثمة سيارة إسعافٍ تقف مشرعةً أبوابها ، طفق الناسُ يعزونها ، بينما كانت مجموعةٌ منهم تحمل جثمان زوجها الذي ضربته جلطةٌ مفاجئةٌ أنهت حياته ، تسلمت في المشفى تقرير الوفاة الذي قدر فيه الطبيب وقت حدوثها حوالي العاشرة والنصف صباحاً وقت كان الجراحُ يزيل الثؤلول.
—