ولادة – قصة قصيرة – القاص/ عبدالكريم الساعدي :
كنت وحدي حين هبطت من ذلك الشاهق، أراوغ غيبتي وأنتظر، أسكن نفسي، ألزم صمتي، أرتلّ ما تيسّر لي من خفقة القلب، قطيع من الظلمة يخبط ناظري، أنكفئ إلى الخلف، أدور حول نفسي، تنبسط كفّاي، تتسلّل قدماي من جوفي، تضرب سطح العتمة فرحة، ذراعيّ يخال لي أنّهما جناحان، أحلّق بهما في فضاء من سائل لزج، تهدهدني مويجاته، أتأرجح فرحاً في فراغ شاسع، يمتدّ ما شاء لي، أتبعثر كما قطرات الندى، ألج بحوراً وفضاءات، أغفو على وريقة وردة، يلملمني نبض له كنه النغم، أنقبض، أعود إلى نسغي الدافئ، يراودني النعاس، أتشبّث بأضلع تحيط بكوني الفسيح، أشهق برائحة التفاح؛ فأنام على سرير من موج ساكن. الساعة المعلّقة على الضلع الأول متوقفة عند الثانية عشرة بعد منتصف الظلمة، تتوهج بين الحين والآخر أقمار زاهرة، تنتصب أمامي تسعة أبواب، خلفها نافذة صغيرة، يندلق منها ضوء وامض، مذ رأيته أصابتني رعشات من القلق، أغمض عيني، يرتبك رقادي، تتفتّح أذناي على أنين ريح عاتية، تحمل غيمة ملبّدة بالسواد، موبوءة بالرماد، تجوب جهات عوالمي الجميلة، تهرول خلفي، أتعلّق بأضلع كوني، تقتلعني، أسقط في الفراغ، أتدحرج مزدحماً بالخوف، تصهل في جوفي صرخة، أكتمها إلى حين، كقابض على جمرة، لأول مرة أحسّ بضيق المكان. أطلق سراح رحلتي، رحلة ترتجف بالغموض، الباب الأول يمدّ لي إغراءً، كان موارباً، أقضم طرف قصبتي الممتدّة من سرّة وجودي حتى النافذة الوامضة بالضوء، أمتطيها مهاجراً، يرافقني سرب من الفراشات، يؤانسني، يمحو وحشتي:
– لا عليك، كن مطمئناً، سنرافقك حتى النافذة.
يُغلَق الباب خلفي، أحسّ أنّي أفقد بعض الدفء، أضلاع كوني تضيق، أفزّ على صوتٍ هامس،
” افتح كفيك”.
يحدّق ملياً في خطوط كفّي، يزيح ستاراً من عتمة، يشير إلى سرب الفراشات أن تتبعه حتى الباب الثاني، أملأ صدري بعبق الحنين، وأقضم شيئاً من قصبتي، أحلّق خلف الصوت، أرتجي ملاذاً لغربتي، ذاكرتي تفقد توهجها، تخلع ثوبها شيئاً فشيئاً، وكلّما ولجت باباً وخرجت من باب آخر، أراني عارياً، تلفّني موجة برد، قصبتي تكاد تتلاشى، لم يبقَ منها سوى قضمة واحدة، الفضاء الفسيح يضيق، ينطوي في حنايا ظلمة يدقّ البرق بابها، وما إن ولجت الباب التاسع حتى غادرني سرب الفراشات مودعاً، فجأة يهاجمني الضوء، يصفعني العمى، أغمض عيني، يحاصرني الدمع، تهصرني أضلاع كوني، أتشرنق في حيز يواسي ظمأ الروح لنسمة هواء، أستوحش مرافئ تلّوح لي ببيارقها، أمدّ رأسي، ألمح ظلّ امرأة، شفتاها ترفلان برفيف البسملة، أسحب رأسي، ألتفّ حول نفسي، تقترب من النافذة، تفتح ضلفتيها، أحبس أنفاسي، تمسك برأسي، أراوغها، أحاول الانفلات من قبضتها، أخوض في موج، تشدّني رغبة للغرق فيه، يبلّلني بقطرات حمراء، وعبثاً أحاول الهرب، أقضم ما تبقّى من قصبتي، أحوّل بصري نحو مملكتي، أتوسل كوني، أتعثّر بين الظلمات وهدب السرة، دثار من أطياف الذر يلتفّ حولي، يوقّع عهداً بنفحة بيضاء، يمسح غبار العتمة عن وجهي، أتلو بنوده؛ فأتوهج بشهقة تكويني. عقارب الساعة تتلاشى في قوس من نور، ينكشف الستر بيني وبين أسفار تتوسّد الأفق، اليدان تقبضان على كتفيّ، تتلمظان فرحاً، تخرجاني من العتمة إلى التيه، ظلّي يتبعني، أطلق صرختي في المدى، لكنّها تضيع وسط موجةٍ من هلاهل ملأت الفضاء.
القراءة النقدية
__________
نص جميل ، من خلال العنوان ‘”ولادة”، وما يحمله من دلالات الخلق، هناك شيء ما سيولد، طفل، قصيدة أم رواية ؟
ينتمي هذا النص لنوع القصة القصيرة ، استخدم فيها الكاتب خياله المبدع في تصوير بطل القصة والمراحل التي مرّ فيها ليصل إلى الكون الذي مُلئ بالتهليل والسعادة.
استخدم الكاتب المحسنات اللفظية، كالتشابيه والاستعارات: يندلق منها ضوء وامض، أحلّق بهنا في فضاء من سائل لزج، أتبعثر كما قطرات الندى، تتفتح أذناي على أنين ريح عاتية…
الحبكة:
نص مليء بدلالات العبور، نعبر إلى هذه الدنيا وما نلبث أن نعبر مرة أخرى لباطن الأرض وأخيراً نعبر مرة ثالثة إلى يوم يحدد مصيرنا، الأهم أنه ثابت ونهائي.
العقدة الأساسية هي العبور، رحلة مليئة بالمعاناة، والتعب تم تصويرها بطريقة مرمزة، وهذا ما أعطى النص بعدا فلسفيا راقيا.
.البطل في هذه القصة هو المتحدث وهو المسند إليه الطاغي في النص المسند : ( أراوغ. أسكن، ارتل ، أنكفيء، أدور ……) ، يحدثنا عن سيرته منذ أول هبوطه حتى خروجه ترافقه قصبته التي
جعلها الله عزّ وجل رفيقته ومساعدته خلال رحلته.
خلقٌ بديع، وهو مدعاة للتفكر بعظمة الخلق. رحلة عبور إلى الإعجاز في الكون، لقد ذكرتني بشعر لابن سينا الطبيب والفيلسوف حيث قال :
عجبي للطبيب كيف يلحد بالخالق بعد درسه التشريح.
مجرد وصف نشأة الطفل في رحم الأم وكيفية ولادته يعد إعجازاً مبهراً، يعجز العقل عن استيعابه.
نص متماسك، حقق الميزات السبعة التي جعلته نصا كاملا .
اعتمد الكاتب طريقة القص أكثر من الإخبار، وذلك في أسلوب من السرد الرائع والرقيق رغم صعوبة. الموقف، اسلوب عميق تم رصف الكلمات المحسنة لفظيا ومعنويا بطريقة عفوية ومعبرة
مما أثرى النص وزاده عمقا وجمالا.
.فكرة النص ليست مطروقة بهذا العمق والدقة، يخرج الطفل من العتمة إلى التيه وظله يتبعه، تصوير متقن وصحيح ، نحن نعيش في التيه .
نص حقق مقاييس الجمال .
—