تقديم الكتاب :
“كي لا نستسلم ” عبارة عن سلسلة حوارات إذاعية جمعت مفكرين عملاقين هما: السويسري جان زيغلر والفرنسي ريجيس دوبريه. وقد أجرتها إذاعة “France Culture” بثت طوال أسبوع، وجمعت في كتاب صدر عن منشورات Arléa باريس 1994. وترجم الكتاب من طرف رينيه الحايك وبسام حجار، منشورات المركز الثقافي العربي 1995. تضمن الكتاب تقديم المترجمين، وخمسة فصول، ويقع في 117 صفحة من الحجم المتوسط.
على الرغم من مرور ما يزيد على عقدين من نشر الكتاب إلا أنه لا يزال محاففظا على راهنيته، وذلك بالنظر للموضوعات الشائكة التي تطرق لها ، وكذا لعمق الحوار الذي دار بين دوبريه وزيغلر.
خلاصة الكتاب:
الكتاب في الأصل- كما سبقت الإشارة – هو سلسلة حوارات إذاعية. وهو الأمر الذي يطرح مشكلة في محاولة تحديد أهم مضامينه، وذلك راجع لتشعب القضايا التي تطرق لها الحوار، وكثرة المعلومات والمعطيات الواردة فيه. لذلك ارتأيت الوقوف عند أهم التيمات التي عالجها الموضوع، ومحاولة عرض – بإيجاز – الأطروحة الأساسية التي دافع عنها كلا المتحاورين. و يمكن تحديد تلك الموضوعات في : العولمة والهوية – راهنية الماركسية – مدى ضرورة الدولة – دورالمثقف – العالمثالثية.
العولمة والهوية :
يبتدئ الحوار بطرح زيغلر لمفارقة تكمن في التناقض بين السعي الحثيث لتوحيد العالم من خلال وسائل الإتصال والمواصلات- الأمر الذي يفترض انبثاق وعي كوني وشمولي – من جهة، وبين تضاؤل الفكر التضامني في العالم ( تلاشي الأمميات الإشتراكية مثلا).
يتفق دوبريه مع زغلر بصدد هذه الملاحظة،أي عولمة الاقتصاد وتشرذم السياسي، ويركز أكثر على البعد الإقتصادي في هذا الأمر، وكذا على الجانب الإعلامي. ففي الوقت الذي صار فيه العالم قرية صغيرة بفضل عولمة السلع والصورة فإن التباعد الفكري بين المجتمعات يزداد عمقا.
بدروه تنبه زيغلر إلى أهمية البعد الإقتصادي – الذي طرحه دوبريه – وأبرز أن ماتوحده العولمة الإقتصادية تفرقه الهويات المنغلقة، التي تغرف من معين “سلفي “، وتتأسس على” بنيان مفاهيمي ” هش ، ولكنه فاعل ومؤثر جدا.
راهنية الماركسية :
يثير زيغلر قضية راهنية الخطاب الماركسي، ومدى صلاحية التحليل الماركسي في تفسير الواقع المعيش.
يقدم دوبريه طرحا نقديا للماركسية. ينبني على التخلي عن الماركسية (بعد أن كان من المدافعين عنها بقوة نظريا ونضاليا )، والإحتفاظ بثلاث نقاط أساسية في الماركسية وهي: المشروع المادي المؤكد على ضرورة فصل الواقع الفعلي الموضوعي للناس عن وعيهم بذواتهم. مع الإشارة إلى أهمية الطابع العقلاني للماركسية في مقاربة الظواهر الإنسانية. كما يبرز أن الماركسية أداة تحليل يمكن الإفادة منها، ومن بعض مفاهيمها شريطة الإنتباه إلى نسبيتها. ومثال ذلك الإبقاء على مفهوم الطبقات الاجتماعية، لكن مع التذكير بأن موازين قوى الطبقات ليست من طبيعة اقتصادية فقط بل رمزية كذلك، فماركس لم يولي للهوية القومية أهمية كبرى مفترضا أن الإتماء الطبقي أقوى، وهو الأمر الذي يبدو غير صحيح (الحرب العالمية الأولى مثال واضح). ولم يفت صاحب ” نقد العقل السياسي ” موافقة زيغلر إشارته إلى قوة وراهنية النقد الجذري الماركسي للرأسمالية.
بيد أن الماركسية – في نظر دوبريه دائما – تلتقي بالليبرالية في التشبت بما أسماه “الوهم الإقتصادي”، أي القول بأولوية الإقتصادي في تحديد جوهر التاريخ. ومن ثمة رفضه للنزعة الإقتصادوية. وعلاوة على ذلك أغفل ماركس جملة من الجوانب الأساسية منها: عدم أخذ استقلال السياسي عن الاقتصادي بعين الإعتبار . فتغير نمط الإنتاج الإقتصادي، لا يؤدي بالضرورة إلى تغير السلوك السياسي للجماعات. إن المجتمعات البشرية يخترقها “اللاوعي السياسي” الذي يأخذ طابعا تنظيميا (لا سيكولوجيا)، والذي يظل غير مكتمل. ولأن كل جماعة لا تتحدد إلا بانغلاقها على ذاتها، فإن اللاعقلاني يبقى حاضرا داخلها بقوة (أسطورة – يوتوبيا…). وفي السياق ذاته يدعو دوبريه إلى التمييز بين نوعين من التاريخ: التاريخ التقني لعلاقة الإنسان بالأشياء والتاريخ الديني لعلاقة الإنسان بالإنسان،. وإن كان المفكر الفرنسي يقر بإمكانية الاختلاط بينهما على المستوى التجريبي . وإذا كان الأول لا رجوع عنه، أي أنه سائر دوما نحو التقدم (لا يمكن الرجوع من السيارة إلى العربات المجرورة بحصان)، فإن الثاني فيمكن أن يشهد تراجعا. فالتقدم الصناعي والتقني لم يقضي على ظواهر الإستبداد والإستفراد بالسلطة. ويأخذ كذلك على الماركسية تهميش الديني في المجتمعات البشرية، والذي يظل معطى بنيويا حتى في المجتمعات المعلمنة. ويخلص دوبريه للقول إن ” مفاهيم الماركسية ما عادت صالحة لوصف مجتمعنا الغربي “. ف “الماركسية هي نزعة تفاؤلية، مرضية وعمياء، وبلغت من الخطورة بحيث أنها لم تر الضوابط البنيوية للكائن الجمعي، والطابع المتجدد لتوالد العنف، والطابع الديني الذي لا يمكن تجاوزه”.
يبدو جان زغلر على خلاف مع دوبريه في ما يخص صلاحية التحليل الماركسي للواقع، فهو يقر براهنية الخطاب الماركسي. كما يرفض التمييز الذي أقامه دوبريه بين نمطي التاريخ، فتمييز من هذا القبيل يبدو مستحيلا من الناحية الفعلية، كما أنه لا يمكن إنكار وجود تقدم للقيم على المستوى الموضوعي (صعوبة الدفاع عن ضرورة العبودية اليوم) وإن كان لا يعفيه من نقد تقصير ماركس في إدراك أهمية الإنتماء القومي والديني للإنسان. ولكن تبقى قيمة وأهميته في النقد الجذري الذي وجهه للنظام الرأسمالي القائم على تسليع الإنسان، واستغلاله، واستيلاب حريته، وتدمير الطبيعة. وإذ تسير العولمة الاقتصادية نحو توحيد العالم، وفرض نمط عيش واحد، فإنها تفرز ظواهر الفقر والاستغلال و “النيوعبودية “…لذلك فالرأسمالية تسير نحو نهايتها برجليها.” إني أقول لتلامذتي :لكي ندرك النسق الجائر الحالي للعالم، علينا أن نقرأ ماركس وكفى. وما أن يفعلوا حتى يدرك معظمهم ما أقصد”. على حد تعبير المفكر السويسري.
مدى ضرورة الدولة :
يستهل زيغلر النقاش حول الدولة بالتذكير بموقف دوبريه من الدولة كفاعل تاريخي أساس. ليعرض دعواه المبنية على النظر للدولة كجهاز طبقي، والحلم بمجتمعات من دون طبقات، تختفي فيه الدولة. وإذا كان دوبريه يؤكد على ضرورة الدولة، فإن زغلر يدعوه إلى عدم إغقال البعد التطوري والتاريخي في معالجة مسألة الدولة. فالأمل في تجاوز الدولة والقوميات الضيقة المغلقة – التي هي أس الحروب والشرور – يستند إلى التطور المعرفي والتقني الذي وصلت إليه الإنسانية (ويمتح كذلك من واقع سويسرا التي ينتمي إليها ) . ويذكره بأن الدولة ماهي إلا أداة لخدمة الطبقة البيروقراطية المهيمنة، وأنها قائمة على التمييز واللامساواة. كما يرفض الخطاب المثالي حول الدولة كتعبير عن إرادة الأمة والصالح العام. ويشكك في هاتين المقولتين الاخيرتين، مستعرضا مثالي الإستعمار الفرنسي في إفريقيا، والتواطؤ الأوروبي مع الصرب والكروات ضد مسلمي البوسنة. فهل يمكن الدفاع عما هو لا أخلاقي باسم خدمة الصالح العام؟؟
يرى زغلر أن الدولة صارت غولا مستقلا بذاته، وان “الأمة واقع ينبغي تجاوزه ” لصالح فكر تضامني عالمي.
من جهته يوضح دوبريه رفضه تقديس الدولة، وكذا رفض المنظور الماركسي للدولة. فهي ليست غاية في حد ذاتها، بل وسيلة لخدمة الصالح العام، والتعبير عن الإرادة العامة. ويذكر المفكر بأن الدولة هي ضامنة الكرامة والحقوق الإنسانية، (ويطلق هنا من الدور التقدمي للدولة الفرنسية في تمدن المجتمع ). و”حيث لا وجود للدولة، لا توجد حقوق الإنسان”. إن “الدولة ليست خيرا مطلقا”، “بل هي أسوأ الشرور قاطبة، باستثناء تلك التي ستنجم عن غيابها”. فغياب الدولة يعني العودة إلى حالة الطبيعة، وقانون الغاب، وتشرذم الأمة…وما يجعل رائد “الميديولوجيا” يتشبت بكيان الدولة، هو الخشية من سيطرة الإكليروس وأسياد المال (المصرفيون الكبار والرأسماليون ). وإذا كان– بدوره – لا ينكر كون الحقبة الكولونيالية وصمة عار على جبين الدولة الفرنسية، ولا ينكر أن الهويات المنغلقة قاتلة، وأن التشبت بالأمة الإثنية عودة لمنطق القبيلة، فإنه يظل متشبتا بنموذج دولة الجمهورية (دولة روسو)، وبأهمية الإنتماء إلى الأمة الجهورية، أمة المواطنين، لا أمة العرق التي تهدد بالقضاء على قيمة وتنوع أروبا.
دورالمثقف:
بنوع من الحسرة والأسى على المثقف يتساءل المفكر السويسري عن الجدوى من وجود المثقف. فإذا كان هذا الأخير يهتم بإنتاج الرمزي، وتوليد الأفكار والكلمات…بيد أن المثقف في حاجة إلى حركات اجتماعية تحول تلك الأفكار إلى قوى مادية للتأثير على مسار التاريخ، وبالنظر إلى سيطرة الإستعراضي الإعلامي، والعقلية الإستهلاكية والاقتصادية على المجتمعات المعاصرة، فإن دور المثقف يطرح أكثر من سؤال. وعلى الرغم من “الضجيج الإعلامي ” ونفور الناس من سماعه، فإنه يتشبت بضرورة المثقف، الذي يتمتع –وحده – بامتياز الحرية، والمطالب بعدم تقديم استقالته من الشأن العام. فالمجتمع بحاجة لمثقفين يخلقون الشروط الموضوعية لإنتاج جمعي للمعنى. ويبدو زيغلر في هذه النقطة أكثر تفاؤلا، وإصرارا على أنه “يجب أن نناضل” كما يقول.
من جهته يتطرق دوبريه لمختلف العوائق التي تواجه عمل المثقف، وأبرزها: سيطرة التلفزيون وولوج عصر الصورة، وكذا ضعف القراءة وهجرة المكتوب، ثم انحطاط الجامعة، وحيرة المثقف بين الترويج الإعلامي، ومن ثم السقوط في فخ الإعلام الاستعراضي والاستهلاكي من جهة، وبين اللاترويج ومن ثم فقدان التأثير وخيانة وظيفة الالتزام.. ويبدو المفكر الفرنسي أقل حماسا حيال فعالية وجدوى وجود المثقف، بل ويلتقط من صديقه زيغلر فكرة إنشاء متحف للانتلجنسيا كتعبير عن قرب نهاية عصر المثقف. ويميز المفكر في الإنسان بين شخصية ونشاط المثقف-الباحث (الذي ينبغي أن يلتزم الموضوعية والحياد) وشخصية ونشاط المثقف-المناضل (الذي يدافع عن قضية ويتبنى معركة ما)، ويرفض بشدة الخلط بينهما، لاختلاف مجال العلم عن مجال النضال السياسي. وعلى الرغم من كل ذلك يرفض بدوره صمت المثقف وإمساكه عن السجال العمومي، ذلك أن “دورنا كمثقفين نقديين يتمثل في أن نحول دون تردي السياسة إلى مجرد مسألة إدارة”، أي الدفاع عن السياسي في وجه التقني المحض.
وإذا كان زيغلر يتقاطع مع دوبريه في النقطة الأخيرة، فإنه يشكك في الفصل الذي أقامه بين المثقف كباحث وكمناضل. فحقل العلوم الإنسانية يختلف كثيرا عن حقل العلوم الطبيعية. والتمييز الذي يشدد دوبريه على ضرورته لا يبدو واقعيا. وتحقيق شرط الموضوعية في علوم الإنسان أمر مستحيل، إذ لا يمكن فصل النقاش العلمي عن المسألة القيمية، ومهما حاول الباحث لن يستطيع وضع ذاتيته بين قوسين.
العالمثالثية:
يطرح دوبريه للنقاش مسألة العالم الثالث، والموقف من العالمثالثية. ويبرز استحالة تحديد معنى العالم الثالث، باالنظر إلى الاختلافات والخصوصيات الثقافية التي تميز كل بلد على حدة، فالعالم الثالث عوالم متنوعة، ولا يمكن للمرء أن ينكر أهمية الإنتماء إلى الوطن، و الهويات القومية.
ينظر زيغلر إلى العالم الثالث من منظور إنساني، معتبرا أنه يحيل إلى العالم الذي طالته يد الإستعمار، ونهشت الإمبريالية جسده المنخور. إن العالم الثالث هو أغلبية ساكنة الأرض الذي يزدادون فقرا وبطالة ومرضا وجوعا وتهميشا، ويعانون الأمرين من أنظمتهم الداخلية المستبدة ، والأنظمة الخارجية المتواطئة. إنه العالم الذي بدأ يفقد أهميته إذ المواد الأولية يستعاض عنها بمواد صناعية. وهو العالم الذي تتخذ منه أروبا موقفا براغماتيا، وتنهج حياله مقاربة أمنية، فعوض أن تسهم في حل مشاكل الهجرة و الالعدالة الاجتماعية وعلاقات الشمال – الجنوب بشكل يستحضر القيم الإنسانية والاروبية (العدالة والحرية والتضامن…) نجدها تدافع عن ضمان مصالح الطبقات الاكثر غنى، زتتنكر لذاتها. ولذلك يرى أن “نظام تمييز عالمي يلوح في الأفق”. ويسجل ريجيس دوبريه الطابع العاطفي لهكذا خطاب، ويبرز أن المرء مطالب بالتفكير عالميا، لكن أن ينشط محليا.
على سبيل الختم:
أود أن أشير في الختام إلى روح الود التي سادت حوار المفكرين والتي يلمسها قارى الكتاب على الرغم من الاختلاف الكبير الذي يفرق بين المفكرين، والذي لا يمنع من وجود تقاطعات بينهما. إن قيمة هذا الحوار في نظري تكمن لا فقط في القضايا التي أثارها والتي لا زالت مطروحة إلى اليوم، وربما بقوة أكبر، بل أيضا في الجاني القيمي الذي سيسجله القارئ. فهو أولا دعوة لتجسيد ثقافة الحوار بين مثقفينا. وهو تنبيه لأهمية احترام الرأي الاخر، وتقبل الاختلاف، ومناقشة الأفكار والمواقف لا الأشخاص دون تخوين أو اتهامات…مع تجنب الجدل العقيم. وما أذهلني في الحوار كذلك هو الاعتراف بالخطأ (من طرف دوبريه حيال موقف كان قد اتخذه وتراجع عنه) الذي ينبغي ألا يشكل عقدة لدى المثقف. فما أحوجنا إلى مثل هذه القيم في مجتمعاتنا التي تعرف ظواهر التكفير الديني والسياسي، وسيطرة ثقافة الإقصاء والتطرف الفكري والديني والتعالي…
—