جمع الخسارة في قصيدة فظلت أبياته مشحونة بالوجع حتى أخر كلماته في خساراته التي جمعها في قصيدة ظلت مشحونة حتى أخر مفرداته بوجع ووطأة ما عانى منه المجتمع عامة من قيد فرض على الحياة طيلة عقود، استحكمت فيها فكرة الهرب في بداية أبياته من واقعه الذي وصفه ( بمدن مكتظة) حتى بالضجيج وهنا جاء استخدام ( الكلاب والناس) كتعبير مجازي عن زحام المدن بما يشعل فيها الاحتراب والتنافر حتى تضيق بساكنيها، فتجبرهم على الهروب منها نحو الخلاص من القيد الذي يفرض على تحركاتهم.
وهو ما رمز له عبد الكريم العامري في تتمة البيت ( ثمة من يراقبك)، وجاء تعبيره هذا ليجسد في تقلب الساعات ( الليل والنهار) ما يعطي استمرارية الحدث والاستمرار بوطأة المعاناة التي يفرضها القيد نتيجة ترقب حركة الناس بآلية لا تنقطع.
المدن المكتظة بالناس والكلاب والضجيج تجبرك على الهروب الى
أمكنة أكثر هدوءاً
في الليل أو في النهار ثمة من يراقبك
محاولة الهرب الأولى لم تجد نفعاً بعدما جذبك حنينك الى بيتك
الأول .
العامري يحسب هذا كله خسارة في شعره فينتقل من العام الى الخاص ( يجبرك)، ( الهروب) فهل كان ثمة هروب جماعي أم أن العامري لجأ لتهويل الحدث باستخدامه أسلوب التفخيم ( هروب) والكلمة توحي بان هناك جماعات قد قامت بهذا الفعل وليس الشاعر وحده.
وهنا نسجل للعامري إن ذهابه لرسم صورته الشعرية بصيغة الجمع للتعبير عن الإفراد جاءت على درجة من الدقة والكمال، بل حملت جمالية حروفه تكريس المعنى بأدق التفاصيل حين قال ( المدن المكتظة) ، (أمكنة أكثر هدوءاً) ما يوحي بأن الزحام الذي يشكله الناس والكلاب واكتظاظهم في تلك المساحة لا يعني إنها ستوفر الهدوء والسكينة، بل هي تجبرك على الهرب نحو غيرها لما تحويه من مخاطر عدة ليس أقلها المراقبة وتقييد الحركة بفعل فاعل. خسارة العامري الأولى تمثلت في سطوة القيد وقسوته ( وهو تعبير ضمني ) لما تشكله السلطة وما فرض على جيل بكامله وليس العامري وحده، ما يعني إن قصيدة ( جمع الخسارات) كانت تحمل هماً وطنياً تدخل في باب الوجداني أكثر من ذهابها نحو الوصفي .
أراد عبد الكريم العامري أن تكون قصيدته هذه تعبيراً عن حالة عامة ، فذهب لانتقاء مفردات ذات دلالة في وجدان المتلقي أو قرأ العامري ما يجول في خلج الشارع من تداخل المعاني حول من يفرضون القيد ويحكمون التسلط فجاء تعبيره دقيق يتطابق مع الوجدان ( الناس والكلاب) وهي كلمات دالة على من يتحكم في الشارع بصورة عامة ، وليس بالضرورة أن تكون السلطة مباشرة، وإنما ما أكتظ من عملائها في الشارع وكان وصفهم مثل (الكلاب) التي تنتشر بلا وعي ، وهي محاولة بارعة من العامري لإسقاط الوصف على الحالة .
المجازية التي استخدمها العامري أفضت لتطور مفهوم النقد الضمني لحالة مُعاشة عكست أبعادها على صورة المشهد المروي بمأساوية هشمت جدران المجتمع ، ومن ثم أحالته الى حالة الهروب التي رسم العامري حروفه وفق تصوراتها وما عانى ، وما يعاني المجتمع بشكل أوسع.
لكن المأساة التي قادت شاعرنا في هروبه الأول استمرت رغم هروبه ولم تنتهي ، وحالة الاستمرارية تلك تنعطف على الأمل والإصرار الذي تحمله القصيدة نحو حياة غير التي يصفها العامري بصورة الكلاب والناس أو خالية من صورة القيد التي طالت.
وبتهكم ربما لم يعرف عند الآخرين في شعرهم ، جاء العامري بالصيغة تلك ليصف محاولته الثانية الفاشلة أيضا بأنها أفضت الى (فنادق المخابرات) ، إلا انه وفي تلك الفنادق التي منحها العامري درجة الصفر ، طرح أبياته باسلوب استفهامي يوحي بأنه أراد أن يوصل فكرة الاستمرار أو الخنوع للقارئ بجدية الاستمرار من عدمه ، أو الهرب من قيود ما تفرضه الفترة التي تبناها العامري بوصف قصيدته.
ذهب العامري لاستخدام أسلوب الوصف والتشبيه وكرس لها صفات بعينها، استخدم النعوت الدالة على حالات معينة ، قاصداً إياها دون سواها لتقريب صورة المرحلة المأساوية التي كانت ، ومن ثم تجسدت بنفس الصيغة في مشهد ما بعد زمن خسارات العامري الأول.
محاولة الهروب الثانية ألقت بك في غياهب فنادق المخابرات ذات
الدرجة صفر
هل تفكر بمحاولة أخرى وأنت الخارج من جحيم علبهم الضيقة
هل تفكر فيمن يخرجك من منفاك الأزلي، ويخلصك من ( ميكانيكية)
دماغك التي لن تتوقف .
الزمن ذاته يعود، بلونه الخاكي، وأسلحته المتطورة.. ووجهه المسلوخ
يعود بذيوله وقرونه.. بمخنثيه ومومسا ته..بأدرانه : ما خفي منها وما ظهر.
وفي خسارته الثانية كرس عبد الكريم العامري أبياته لليأس ، فذهب لتصوير الهزيمة والتسليم بواقعها الى ابعد حد ، مارس من خلالها الوصف بدقة متناظرة قارنت بين صورة المهزوم والمأزوم بتهكم أيضا ، مبيناً أن من يُهزم وهو الخاسر بكل تأكيد ، لكن المأزوم من يصفه العامري بقوله ( يملأ ون الكون برؤوسهم الخاوية) ، ما يعني إن هناك قضية ربما هزم صاحبها ، لكن المنتصر فيها لا يعتد به لخواء فكره إلا من القتل والتنكيل. وهنا أراد استخدام البدل في التعبيرات الضمنية المألوفة من خلال إدخال التشويق والترغيب في أبياته ليوحي للقارئ بان ثمة انتصار حتى في الهزيمة .
براز أيامك يملؤك فلا حاجة للاغتسال الليلة
كل الذين ينظرون إليك بنصف عين يحفرون قبرك
تغيضهم قامتك وبهاؤك.. وسعادتك من اللاشيء
لا تعرفهم، هم يعرفونك ويرسمون وجهك بألسن نار
الخائفون من النهار
يملأ ون الكون برؤوسهم الخاوية
وأجسادهم الناحلة
هم بضعة من زمان دخيل، مجدب مثلهم ودخيل.
ذهب العامري الى السردية التي ميزت الكثير من أبياته باستخدامه التوظيف اللغوي بمستوياته المعروفة ( النص ، ثم التجربة ، والرابط الذي بينهما).
أما جزيل المعاني وهي التي أثراها العامري بالمرادفات اللغوية ، حتى يخال القارىء أن قصيدته عبارة عن استخدامات للتشبيه اللفظي وبدائل الكلمات ، لكنها في الحقيقة دقيقة الوصف جذابة المعنى دالة في التوصيف معبرة عن الحالة ، أي باختصار ذهب العامري للتشبيه والمرادفات لتكون قصيدته غرائبية الأطوار مفعمة بالمعاني ، وهذه دقة في الطرح واستخدام البدائل لم نجدها عند الكثيرين .
وفي خسارته الثالثة التي أسميتها ( الكمية) أفرط باستخدام ( كم ) الاستفهامية وهذه يختلف إعرابها حسب مكانها من الجملة وما يتبعها فهي من الممكن أن تأتي مفعول به أو مبتدأ أو مثال أو ظرف أ و مفعول مطلق ، ودل على التنوع في المعاني نهاية الأبيات التي ضمنها العامري صفات عدة، وتقلب بين حقول الألغام ، والأرض، وعهر الكون ، والعالم، مؤنس ، كريم، وهذا التنقل مابين صفة وجملة استفهامية أراد منه الشاعر متعمداً إثراء القصيدة بمعاني مختلفة لتخرج مكتملة الصورة عند القارىء بعد استخدامه صيغة الاستفهام كمدخل لأبياته التي بقيت مبهمة بعلامات الاستفهام ، دون أن يحرر لها أجوبة تحد من حيرة القارىء وتسد باب التشتت في عقله. كما عمل العامري في خسارته الثالثة تلك على التداخل ما بين الواقعي واللامتناهي ، وما بين الثابت والمتخيل ، وما بين الملموس والمحسوس ، وهي تناقضات أضفت على قصيدته جمالية متقنة أجاد عبرها العامري هذا التنقل لتكتمل الصورة الشعرية بدقة.
كم من الوقت تحتاجه كي تعبر حقول الألغام
كم من الحدس تحتاجه كي تجس الأرض بقدميك
كم الطهر تحتاجه كي تغتسل من عهر الكون
كم من العشق تحتاجه كي تغمر العالم
كم منك يحتاج المكان ليكون مؤنساً
كم منك يحتاج الزمان ليكون كريماً
وفي رابع خسارات العامري ذهب بعيداً في استخدام المضارع ، وجاء على زج ( ما زال) للاستمرارية التي توحي بعدم اكتمال الفعل ، وهي تفيد الاستمرار مع الديمومة، والجملة التي تسبق ب ” ما زال ” هي جملة اسمية خبرية تحتمل التصديق والتكذيب، وهنا جاء الشاعر ليضع القارىء على أعتاب حيرة أخرى تفضي الى المجهول ، فلا شخوصه وصلوا لمبتغاهم ، ولا هم قد يصلوا بالمطلق، فالفردوس مفقود ، والبحار واسعة وكبيرة، وتعبير (بطون البحار) يعني دوامة البحث دون جدوى ، أي تكريس لواقع أفاد به العامري في عنوان قصيدته ألا وهو (الخسارة) وأخذ يتقلب في صور خساراته مابين المبهم والمجهول ، والاستمرار والتشابه اللغوي ، ثم صيغ التفخيم ، كما انه أستخدم النعت والصفة والمبني للمجهول بصورة جميلة إن دلت على شيء فإنها تدل على إتقان العامري في كتابة خساراته التي باتت واقع حال يوصف بالمستمر بعد استخدامه للجملة الاسمية الخبرية (ما زال) . ليخرج لنا في نهاية الخسارة الرابعة ب ( التمني ) مستخدماً ( يا ليت ) مضافاً لها ضمير المتكلم وهو إيحاء للقارئ بما لا يتحقق ، فالتمني ( رأس مال المفلسين) والعامري ليس بمفلس ، وإنما الأمثال تضرب ولا تقاس.
مازال ماجلان يبحث عن فردوسه في بطون البحار
وما زلت تبحث عن أحلامك في بطون الليل
وما زالوا يبحثون عنك في بطونهم المتخمة
المبتغى صعب، والوصول إليه يستنزفك
كن قادرا على لملمة أيامك، وملء فراغاتك
السفن التي أحرقتها خلفك رمموها من أضلاعك
ليتهم جاؤوك فرادى
ليتهم جاؤوك دون أقنعة أو خناجر
ليتهم جاؤوك فرادى.
بقي لنا أن نعرف إن العامري شاعر وكاتب مسرحي وإعلامي رئيس مجموعة بصرياثا للثقافة والفن والأدب، رئيس تحرير مجلة بصرياثا الثقافية الأدبية صدر له :
* لا أحد قبل الأوان شعر 1998
* مخابئ شعر عام 2000
* كل جسدي مشاع 2003
* الطريق الى الملح رواية صدرت عن دار الشؤون الثقافية العامة / بغداد 2000
* الطريق الى الملح / رواية صدرت عن الدار العربية للموسوعات / بيروت 2001
* عنبر سعيد رواية
قدم للمسرح العراقي عدة أعمال منها:
* دم العاشق عام 1982
* سالفة عرس عام 1987
* كاروك عام 2000 في مهرجان المسرح العراقي الخامس إخراج الدكتور حميد صابر
* مكاتيب عام 2001 كلية الفنون الجميلة للمخرج الفلسطيني يزن سعود
* في راسي بطل عام 2002 كلية الفنون الجميلة البصرة للمخرج أحمد عبيد
* حكاية زمن مر عام 2003 إخراج فائز الكنعاني
* برمجة عام 2004
* جناسي عام 2007 إخراج محمد العامري ونوار صالح، وله أعمال وإبداعات أخرى .