تعمل آليات الاشتغال الشعري في مجموعة ( حافة كوب ازرق ) للشاعر مقداد مسعود على الأشياء التي من شأن الشاعر أن يجعلها في رتبة الكائن الحي الذي يدرك في العين ويرسم مشهدا لكل ما في الأرض وما يتصل بها من وقائع عبر محادثة الأشياء وتقويلها مستعينا بعالم الأشياء الناطقة والفهم البصري لكل ما هو موجود و باختلاف الأشياء وضروبها التي بالامكان ملاحظتها بالنظر لذا يكاد مستحيل على المتلقي نسيان هذه الوقائع التي ترتبط بمشاعر يتشاطرها كثيرون على اني اعتقد ان هذه الاشياء ولا سيما من جهة الشعر ( تفترق بها الحالات وتتعاون بها المنازل ) ووفقا لذلك يقول الجاحظ ( اذا جهل المرء وشاهد فهو بما غاب عنه اجهل ) وانطلاقا من ذلك يعمل الشعر بميزان قسط على تحديد مقادير الأمور التي تخرج عبر الشعر من مجرى العادة القائمة على التساوي في الضعف والقوة فالأشياء عندما تخسر في اشتغالات الشعر تكون ناطقة بغير لفظ وعلى عكس ما يتوقع المتلقي فان المعاني في نصوص المجموعة لا تستجيب للتخمينات الفورية بعد أن تقطع صلتها بما هو متوقع لضمان ادامة ذاكرة المعاني والدلالات على طريقة اكتمال متعة النص الذي يصرف جل عنايته لتوالي معاني المكان الواحد حيث المعنى يوزع حصصه بعدل و أنصاف مثل سقوط ثمار شجرة سماوية او مثل حبات المطر البري التي ترسم أشكالها على رمال البوادي وتملأ أسماعنا بنبرات الزخة المطرية الواحدة على الرغم من انها متعاقبة الوقوع وبصفات غير ملحوظة لا تنفصل عن بيئة الكائنات وأمكنتها فالمطر في الصحراء تماما مثل الشعر اذا حن شأنه أن يهذب الطقس ويجعل الاشياء تتحدث عبر غيوم مولعة بالمطر بل انها خالقة لتفاعلات تلامس الاستمرار وعلى النحو الذي لا يخلو من اختزال وعلى غرار ماتفعله الطبيعة التي تحمي وجودها بخلق الاعداء والانجذاب الى المرئي من الاشياء ويتضح ذلك في قصيدة ( صائغ البروق ) أيامي يوقدها الماء ولا يطفئها “إلا ” الزيت في عربة من نور يجلس يجلس على أكتاف ندبة كالفجر شجرتي تنبجس من أصلها ” سماء شجرتي ” متى ثمارها ما قرأ في غصن من أشجارك إلا أشرقت له شمس النارنج
ومثل البرق الذي يكشف في لحظة عن وجه الكون ليعرض الطبيعة بصورة حية على أنظارنا بما فيها من مصائد وفخاخ يتقن الشاعر كذلك موازنة الشراع ليواجه الرياح والتحديق في مغازل المطر التي تنسج مياه سماوية محلاة بالخصوبة المنوط بعطاء الأرض بوسع الشاعر ان يطارد الريح التي تملا ابعاد المكان يوقظ الشعر احساسا متخفيا وهو ليس وهما لا يخضع برهان بل يشكل وحدة جغرافية واسعة من شأنها ان تجعل المكان يمتلك روح أخرى ومعنى ( لا تصل اليه الكلمات ) أن حياة الشاعر تتطلب العيش مع شريك مجهول وهو الابعد عن التصديق في الطبيعة حيث الحكمة الطقسية في اللحظات المواثية للتزامنات السعيدة التي تقيم تواصلا مع الناس قد يطول اجله لان المعنى يضمر دلالة لا يبديها عبر دلالات الطبع لا الصفة أن الشاعر وهو يواجه الطبيعة أنما يجمع خيوطا متشابكة في قبضة واحدة وبدرجة الاحتمال تقريبا فان الصورة السمعية والبصرية للمطر مثلا هما الرعد والبرق في ذاكرة الإنسان والشعر على حد سواء لذلك نرى وعلى توقع بزوغ الكمأ بهيأته بياض من سواد الارض تلك هي اللحظة الشعرية التي تمثل الهوة التي لا يمكن مد الجسور فوقها:
يا حجر يقظان
يدي تنسى كثيرا
يا حجر يقظان
كن ذاكرة يدي
لا تتشنج …
اليك عفويتي كلها
انا حجر الاساكفة
وبناءا على ذلك لا يتحقق معيار الكفاية في اثر ما , إلا بما يضمره اثر ثان وبهذا المعنى فأن ثمة أنتاج مختلف للدلالة والمعنى في نصوص ( حافة كوب ازرق ) فالكلمات تعمل ضد الفكرة التي تعبر عنها بحشود من المعاني عبر نقاط استدلال تهتز لها الثوابت وتلامس البذرة المختلفة بقوة الإنبات الكامنة في ارض المعنى الذي يضيء وجه من أوجه الطبيعة :
الفراغ …
امهر البنائين
هديلي
لم يأتلف مع هذه الأقفاص
حتى لو طليت
قوادمي بماء الذهب
أو :
وحدك وحدك
منشار الأحجار الكريمة كلها
هنا البديهة في الشعر لا يمكن مضاهاتها والسبب يعود إلى أن الأشتغالات الشعرية سوف توفر على الفور ارتياب غريزي من مظاهر الطبيعة وتجلياتها حيث يمكن للأمكنة والأشياء ان تتحدث ببهتان عبر قدرات الدلالة الشعرية التي تجرد الأشياء من عذريتها وتقطع صلتها بما هو محدد ومعروف بحيث لا يمكن أن تكون مجرد كلمات في غير إطارها وهذا في حقيقة الامر يتعلق بخيارات جغرافيا الاختيار الحر الممزوجة برغبة غامضة و عنيدة فالأرض لم تعد كما كانت صامته لم تحسن النطق أنها تتحدث عبر المحراث الذي يفجر عميقا لغة الشعر للإنبات ورغبتها الدائمة مثل دوام الحياة ومن ثم القدرة على الحركة في كل اتجاه عبر ارض مفتوحة لم تعد الأنهار فيها مضمونة القوام بل هي مشرعة للاقتراحات الطقسية اجمع بما فيها التربة والعشب ومساقط الندى اللذان يشمران عن ساعد الجد في شق أحشاء الأرض وإشتغالات الانبات التي تجعل من الثمار الخفية ظاهرة بعد أن يزدهر ظمأهما الى العمل واتباع طريقة مختلفة في الابصار :
تخدعنا الصحراء .. بثبوتها الوحيد : الوردي الذابل
المتخثر.
وحده المسبار …
بعقبته وغليونه وركانته من استفز ملكوت صمتها فأنكشف جوهرها
استوقضتني سحابة
في حبة رمل
أن النظرة التي تفوق قدرات العيش البشرية يمكن ان تدفع بالمكان إلى الادلاء بتفاصيل مرئية تكشف عن علاقات الاشياء في مراحلها المتغيرة فبعض الاشياء في مراحلها المتغيرة فبعض الأشياء تموت عندما يتوقف استعمالها واستنادا الى هذه النظرة فأن المكان يصبح غني بالتجارب والسمات المميزة للنوع القادرة على لفت الانتباه على الرغم من انها موطن للاشياء الزائلة :
اشجار تركض تركض تركض
في حلم واقف
الناس : حشف يتساقط من نخلة واحدة
البوق : يلطخ قمصاننا
ثم يرمي بنا من قلعته المسرعة ..
ان عنصر المكان في المجموعة هو بمثابة وسيط احالي ملائم النوع من الاستعمال الشعري يقوم بدور تمثيلي لدلالات ارسالية بهدف توسيع دلالة المرئي وانعاش قيمة الدلالة فهي علامات تجري مجرى اللغة في نصوص المجموعة بل ولها قدرة قول الشيء الكثير عبر الدور الوظيفي الذي يقرر القيمة ويجعلها بمقدار عبر الدور الوظيفي الذي يقرر القيمة ويجعلها بمقدار الوظيفة فنرى نسبية القيمة من خلال وظيفة العلامة ومن ثم فاعلية الدال المتحرر من المدلول ليخفف في الشعر ما يعرف ( صرف الاشياء عن معناها الظاهر ) فالعالم متغير وكل متغير حادث مقتض لكيفيات متعددة بل ان المدينة والانسان يلتقيان في موضع مشترك في نصوص المجموعة ليظهران جانبا من الوجه المتواري للشعر
*المقالة منشورة في (طريق الشعب) 16/ 7/ 2018
*مقداد مسعود/ حافة كوب أزرق/ دار ضفاف/ بغداد – دولة الأمارات العربية المتحدة / ط1/ 2012
—