الرواية العربية منذ أكثر من ثلث قرن،حرثت أرضا بكرا في فضائها الروائي. يحق لي أن أطلق عليه تصنيفا روائيا هو الرواية الصحراوية أو رواية الصحراء، وهذا التصنيف الروائي، لا دخل له بصحراء التتار ولا صحراء لوكليزيو، والمبادرة تجسدت : في( النهايات) و(مدن الملح) للروائي عبد الرحمن منيف،وفي منتصف الثمانينات،صدرت للقاص محمد خضير في صحيفة (الجمهورية) مجموعة مقالات ستحتمي بعد سنوات تحت مظلة ثريا نصية واحدة( بصرياثا،، صورة مدينة/منشورات الأمد/ بغداد/ ط1/ 1993) في الكتاب مقالة ذات سردية قصصية صحراوية بعنوان(الزبير: عين الجمل) وفي جريدة المدى/ 24 كانون الثاني/ 2006 نشر الروائي العراقي عبد الكريم العبيدي،الفصل الأول من روايته( الضياع في حفر الباطن) ثم صدرت الرواية مطبوعة في 2008، في 2019 أصدرالروائي الكويتي سعود السنعوسي (ناقة صالحة)، كما صدرت في 2018(طعم الذيب) للروائي الكويتي عبد الله البصيص،في 2016 صدرت للروائية السعودية أمل الفاران (غواصو الأحقاف)، وساهمت الروائية الأردنية لينا هويان الحسن في روايتها(سلطانات الرمل) 2019.. في الروايات الصحراوية: تتسيد الصحراء بقسوتها وزهورها البرية، والشخوص التي تخترق هذه القسوة الرملية،تطمح إلى صوغٍ جديدٍ لحياتها فقد قامت المغامرة بتفعيل جهوية ٍ جديدة لسلوكيات أبطال هذه الروايات ..
()
تسلك ُ قراءتي لرواية عبد البصيص، جهة ً توضيحة،يتم شحنها نقديا، لما ألتبس سردهُ بذريعة التقنية السردية السائدة الآن في الرواية العربية، حيث يتخفى المؤلف خلف أقنعة الأصوات إلى منتجة الأحداث وذلك بتقطيع الصفحة المطبوعة إلى مشهدين،بينهما فارق زمني، (خلافا لم تفعله شاشة السينما بالتزامن) ثم تعود الشاشة إلى مشهد واحد هو الحالة الأخيرة التي وصلت إليها الأحداث، وتكون العلاقة عكسية بين صفحات المطبوع والحدث الروائي، فكلما تقدم القارىء في القراءة، كلما توغل فيما مضى من الحدث.هذه العلاقة العكسية لا يفطن لها إلاّ من يمتلكون صبر القراءة الثانية للروايات برغبة تصنيع قراءة مكتوبة لروايات لها ضرورة الهواء والماء في حياتنا التي اعتكرت لأسباب خارج نصها اليومي.
()
تتكون (طعم الذئب) من ثلاثة فصول،قراءتي تفصّل الرواية إلى فصلين مسبوقين بعتبة نصية ص5 -10
*المغني والربابة : ص13- 73
*ذيبان والذئب : ص74- 221
()
هي ليست رواية بطعم الذئب فقط، بل لها زهوة أزهار النوير، ودفء نباتات: الشيح ،العرفج ، الثندة، العلندا. والرمث الذي حين يغتسل بوهج النار، يتضوع طيبا..هي رواية واسعة كالصحراء التي تبدو في عينيّ ذيبان ساحرة ً، والوحدة التي تتأتى بها وحدة آسرة، مختلفة، حيث يكون المرء وحيدا بصحبة نفسه، وأن يكون المرء بصحبة نفسه في حدّ كاف ٍ للراحة/69) في الصحراء يتخلص ذيبان من قطعة الذهب التي أعطاه إياها خاله أبن باتل!! ربما لأن الذهب لم يعد ذهبا، أعني ما قيمته في الصحراء، مقارنة بذهبية مصاحبته لنفسه، بعيدا عن عنف أنظمة الوعي الجمعي الرملي، لقد أنتهت القيمة الأنثوية للذهب، فهو(كان يحب أن يراه على أعناق الفتيات/ 69) لكن حين تفرّجن عليه شامتات وقد اعتلى ظهره متعب، فقام بفعل استعارة لرميهن، : (وبحركة أتسمت بعدم المبالاة، رماه في الروض قبل أن ينحدر من المرتفع) رمى الذهب وعوّض نفسه بتماهٍ في لحظة لذيذة (هبط إلى تربة غير متماسكة،مغايرة لتربة الروض، أحب أنغراس كعبه وهو يطؤها وتخلّل الرمل الخشن بين أصابعه ..) وبرميه لقطعة الذهب ،بدأ مرحلة جديدة من حياته،ذيبان يريد أن يكون هو ولا يريد أن يعيلهُ سواه، يريد التخلص منهم جميعا، لذا رمى قطعة الذهب(كما لو أنه رمى كل شيء خلفه مع قطعة الذهب)
()
مع كل خطوة يزداد ذيبان وحدة ًتنأى به عن الأذى (مع كل خطوة كان قلبه يخفق براحة أكثر ويتحرر من ركام الهموم التي أثقلت صدره../73) وفي قوله (أنا الآن جديد، لستُ أنا السابق، نعم لست أنا الذي في الأمس، ولن أعود لما كنت عليه منذ الآن/ 70) : يعلن عن قطع ٍنفسي واجتماعي مع ذيبان السابق: المسالم، وفي هذا القطع تخبرنا القراءة الثانية للرواية، أنه يمكن أن نعتبر هذا القطع له وظيفة عتبة نصية للجزء الثاني من الرواية : ذ يبان والذئب
()
على مستوى ثان، تعقب الذئب له، أزالَ وضرَ هزيمته أمام حميدان، – على ذمة السارد المطلق- حين يخبرنا(الخوف من الذئب أزال الضغط الهائل الذي كان يكبت روحه. تبخرت إهانة حميدان، أصبحت رماداً لا يساوي هبّة هواء/ 83) أم كيف؟ فسيخبرنا ذيبان نفسه: (هذا الذئب أقوى من حميدان، أقوى وأشد بأساً../89) في هذه اللحظات الحادة مثل زمجرة الذئب المتأهب لأفتراس ذيبان، يتمازجان في ذيبان الشيء ونقيضه: (ومض َ شعور غريب في خلد ذيبان تلك اللحظة،شعور ليس عقلانيا أبداً،لم يشعر به قط،الخوف والافتخار متداخلان، يبرز أحداهما الآخر، الخوف من عدوه،والافتخار بأن عدوه يهابه. لأول مرة يرى أنه مؤثر، ولو على قدر بسيط، ولو بحمله الذئب على الرجوع بضع خطوات للخلف../90)
()
الفضاء الروائي مثلما هو واسع وقاسٍ كالصحراء فهو ضيق كالدحل، فيه الخوف والجرأة ، زمن الرواية مِن سواد المجاهيم أو بياض الوُضّح . رواية سردها من وسائد السدو وطراوتها من مياه الغدير، ومن هواءٍ(يرقص فوق أوراق السدر ويكركر جاريا على أغصان العوسج ويمسح على العشب المبتهج بروائح الربيع../44)، ومونتاج السرد يتشابك في الصفحة الواحدة في الرواية كما تتشابك أغصان العوسج، في الرواية يدّجن البدوي الموجودات لصالحه، يصنّع مِن حجرٍ سكيناً لسلخ الأرنب الذي يصطادهُ/ ص59
()
الواقعية السحرية في الرواية بدوية المنشأ(بعد مغيب الشمس،إحدى العجائز تقص عليهم القصص، تغزل ُ من خيوط الخيال عالماً سحريا يرتدي عقولهم الصغيرة النهمة/ 33) هكذا تم تصنيع ذيبان سرديا أما شعريا، فقد كان سقيا قريحته من (كصيد) أبن لعبون والهزاني والوقداني،ومن زهرات الشعر البرية: تضوعت قصائد ذيبان وتأرجت من ربابته وذاع صيته بين العربان والغدران
()
ذيبان هو الشخصية الرئيسة بإطلاق في الرواية،غيره محض علامات تزينية ينقشها الخطاطون فوق حروف الاسم وتحتها.. ذيبان إنسان مسالم :(لم يؤذِ أحداً، ولم يتسبب في أية مشكلة، طيلة حياته كان مسالماً، لا يخشى أحد ٌ جانبه/ 26) ربما مشكلته : يحب الحياة(التي يعرفها جيداً.. ويفهما بما يتلاءم مع نظرته لجمال الأشياء../201) هو يستجيب لنداء مَن ينادي، يساعد الكل ويعين ويشدّ أزر.. هكذا كان يسرد حياته، لكن هناك مَن يتفوق على سرده بسردٍ حادٍ متفوقٍ يجسّد الطارىء، الذي ما تخيله ذيبان مطلقا
()
هو ورَثَ هماً وغماً، ضعفَ ما عانه أبوه الذي لم يره في حياته، أب ُ شجاعٌ مخذولٌ من قبل أخوته، لم يترك سوى ثقل التسمية على كاهل أبنهِ / ص71..أم ذيبان تحاول إيقاظ رجولته (أخبرني أين هي رجولتك؟ ..نارك لا تشتعل، ودلتك لاتفور، حتى إنك لا تردُ الإهانة عن نفسك أمام الفتيان../28) ولأنه لا ينصرها تجرده تسموياً، وترجمه بمقبوح التسمية: (أنت كوبان،ذيبان اسم رجال، اسمك كوبان/ 29) وبالأسم البديل راح يسخر منه الجميع، وأثناء هروبه بعد خزيه أثناء منازلة حميدان يعاهد نفسه (سأغيّرأسمي عندما أصل الكويت/45) وحين يكون على مشارف القرية بعد نجاته يخبرنا السارد المطلق:(سيتخلص من أسمه، يفكر: سعيد،سيكون أسمي (سعيد) وسأسعد،يهمس باسمه الجديد مجربا وقعه على لسانه: سعيد..أنا سعيد 211).والأسم الجديد، يغيّب واقعة المنازلة المخزية، ومن المحتمل سيُطرد الأسم عن مضاربهم (لن يسمى أحدا بذيبان بعد ضحى أمس /46)
()
أمه تريد منه تفعيل اسمه، وتكوينه أمتدادا لشجاعة والده( أريدك ذئبا تملأ العين مثل أبيك/ 28) هنا تتجسد صحراوي الاسم والمسمى، لا تريد له صبر الجمل ولاغدر الضب أو قوة الحصان : تريده ذئبا كما هو اسمه المضاعف : ذيبان..السؤال هنا، ألا يمتلك الذئب في الرواية تجسيدا لرغبة الأم التي يحاول ذيبان الأستقواء بها عبر تذكرّها.
()
مشكلة ذيبان هي السلامة التي يريدها ولاتريده/ص30. ذيبان ليس جبانا، لكن مشكلته الثالثة، هي أنه يتناول حياته شعريا، بكل ما في الشعرية من دعة ٍ:(كل ما يشعر به عند كل ّ خطر هو البحث عن السلامة بأقل التكاليف / 34) لكن هكذا موقف يتقاطع مع قسوة الصحراء والصحراويين (في بادية لا يُعير أهلها بالاً لسلامة النفس بالقدر الذي يعيرونه لسلامة السمعة )!! وهو ليس لا يعرف أستعمال السلاح بل (كان يتعمّد الجهل باستخدامه منذ صغره خوفا من أن يطلبه أحدهم للنزال../ 41) ألا يكمن السبب في هزاله أو كما تصفه الفتاة غالية (ليس بك شيء من الزين..قصير وحنكك أطول من قدميك../39)
()
القتل : فعل مرتجل ومباغت في حياة ذيبان،(أنا كريم أيضاً وليس جباناً،الله يعرف أنني أريد السلامة فقط، يعرف أنني لم أقصد قتل متعب ../ 113) (ألعن أبو غالية، وأبو الساعة التي رأيتها فيها../118) : دائما المرأة متهمة، والمرأة سبب القتل والحروب!! دائما الرجل برىء، كأن الرجل عربة تدفعها المرأة !! إذا كانت المرأة هي السبب : فمن هو الناقص عقلا!! ..غالية تستعمله إعلانا شعريا، وهو جاهز لهذا الاستعمال قبل أن يتعرف إليها(أحببتك قبل أراك،قبل أن أرى الغدير أيضاً/ 75)..ومن أجل أن يكون الإعلان مدويا لا تتردد هي مَن هتك سترها مثل فتيات مجلات العري أمامه، لا حبا، بل ليروّجها شعريا وغناءً.. وهاهي تظهر له من مياه الغدير عارية ً تتقدم صوبهُ( قالت مقتدرة تلوّح له بالخنجر: إذا اقتربت أضعه في بطنك/117)!!
(تعددية الخنجر)
*خنجر بيد غالية
- خنجر المقتول المجهول، الذي يصادفه ذيبان في الصحراء، ويسلب خنجرهُ وفروتهُ
*وبخنجر المقتول سيذبح الذئب
*بسبب الخنجر والفروة سيكون متهماً بجريمة قتل .
() في القسم الثاني من الرواية : ذيبان والذئب : يتمازجان: الحلم واليقظة، ونهاية هذا التمازج : ربما يكون لصالح لليقظة أو.. لحقيقة الحلم، يهمس صوت في دخيلة ذيبان:(لا تخف ستصحو من الحلم في النهاية/ 93) لكن حتى تحين النهاية، ستمر العلاقة بين الذئب وذيبان، في تمرحلات مشوّقة للقارىء ()
بالنسبة لي كقارىء أتوهمني نوعيا :حين أحررُ فاعليةَ التلقي لديّ من قيود الوعي النقدي : ستغويني فاعليتي :
أولا: يمكن أن نعتبر من ص10 إلى ص 73: عتبة ً نصية ً روائية متماسكة لرواية تبدأ مع الثلث الثالث من ص73 وتحديد بعد النجمات الثلاث المنضدة في الصفحة
(***)..هنا تتنامى جهة ٌ سردية ٌ جديدةٌ، تبدأ بتقشير الواقع المرئي بخطوات سلحفاتية تشد القارىء ليتعقب الأثنين : ذيبان والذئب ..هنا السارد المطلق هو اللامرئي الأول الذي يرافق ذيبان في رحلته: سيخبرنا عن ذيبان أنه بعد مسافة طويلة قطعها متدبراً التسلسل الخفيّ لأحداث..(خالجه إحساس بأنه ليس وحيدا.. معه أحد.. يتبعه.. ويختبىء عنه../73) هذا التوجس يجعل القارىء وذيبان يتصوران .. أن مَن يتعقبه (ربما أحد فتيان الغصاب يتربص به ليقتله../76) ثم يتلقيان الصدمة: القارىء ذيبان (..أقشعرّ جلده،رأى رأسه المدبب الصغير يتلصص عليه من بين صخرتين حين يهمس ذيبان لنفسه : ذئب، سيتسامى السرد الوجيز المتماسك على الجهة الثانية (وسمع لصمت الصحراء ضحكة مجلجلة لوقوعه في فخ إغرائها له../76) ويتسع مشهد القسوة(أنبثت الأصقاع أمامه، كاشفة عن تيه لا ينتهي وأفق يتماهى بعيدا ولن يقترب../81) وهو يحاور نفسه يكتشف كل الأشياء ضده دائما (الدنيا ضدي حتى أنا ضدي /91) ثم يوجهه كلامه نحو الذئب صارخا (لحمي مرّ ..أبحث عن غيري ) يتشجع يستعمل المقلاع، يتراجع الذئب يفهمها ذيبان (أن الذئب يقدّر خطورة سلاحه ومدى الأذى الذي قد يصيبه منه/ 92)!! هل هذا تأويل ذيبان ؟ أم هي دسيسة كلفَ بها المؤلفُ سارده المطلق؟ ..نلاحظ أن السرد ستكون له جهة أخرى وهي الرصد النفسي لما تعتمل به الحالة الشعورية لذيبان وسيكون الرصد دقيقا وجاذبا لفعل التلقي (ظل ّ الذئب ساكناً متحجراً كأنه جماد، تراجع ذيبان إلى والمقلاع يدور فارغاً،فتقدم الذئب خطوة خطوة ثم خطوة، وزمجرته خافته ولكن صرمة تهّر من حنجرته ) هنا نكون أمام سرد كاميرا دقيقة جدا تنتقل بين كائنين المسافة بينهما جد قصيرة، (تعثرت قدمه وعيناه مثبتتان على الذئب، كاد يسقط، فتحركت الذئب حركة سريعة إلى الأمام لينتهز الفرصة، غير أن ذيبان أستدرك ثباته ولوّح بالمقلاع بشكل ٍ أسرع كأنه على وشك الرمي،فتوقف الذئب كما لو أنه يتجنب المخاطرة) ثم تنتقل عين الكاميرا لسرد سالب الطبيعة :(بدا له الليل،لأول مرة، بشعا وسافلا، ليس كما وصفه في أحد أبيات قصيدة فى أيامه الخوالي../93)
وحين يعثر على دحل بمقاس نحولهِ، يدس ذيبان بسرعة البرق فيه وما أن أوصل زوادته إلى فوهة الدحل:(حتى دخلت يدا الذئب إليه)
*عبد الله البصيّص / طعم الذئب/ ط2/ 2018/ المركز الثقافي العربي / بيروت