تدور أحاديث كثيرة في مواقع التواصل الاجتماعي وكذلك في وسائل الاعلام عن مستوى الوعي الموجود لدى المواطنين، وطريقة تعاملهم مع المحال المفتوحة التي تستقبلهم أو مع المؤسسات الحكومية، واشتعلت هذه الحوارات بعد عدم التزام المواطنين بقواعد السلامة وشروطها في دوائر السير في مدن بيت لحم ورام الله والخليل وغيرها، وهو ما أدى إلى طرح مجموعة من التساؤلات حول مستوى شعور المواطن الفلسطيني بالمسؤولية، ودرجة الوعي الموجودة لديه في مسلكه اليومي.
وفي هذا الشأن، علينا أن ننتبه إلى أنه لا يمكن لأحد أن يراهن على وعي مجموعة من الخائفين، والمشتتين، والمرتبكين؛ لا يعرفون أين سيذهبون وكيف ستكون الحياة معهم في المستقبل. لكل واحد خوفه، وهمومه، ومشاكله، والتزامات ظنّها قد لقيت مَن يشعر بها فإذا به يقف أمام أمواج من المطالبات التي لم يستعدّ لها، ولا يملك ما يعينه على الاستعداد لها؛ أصحاب القروض فرحوا بتأجيل الدفعات وفوجئوا بفوائد على التأجيل، أصحاب السيارات فرحوا بتأجيل الترخيص وفوجئوا بالتزامات لم تكن مُعلنة، والأمر نفسه لأصحاب الشيكات والدفعات المؤجلة. أيّ وعي هذا يجب أن يتشكّل عند فرد يعيش حالة من الـ (؟) عن كل شيء، علامة استفهام تحيط بحياتنا في كل الأماكن التي نحنُ فيها. الخوف غريزة، والغريزة تمنع العقل من العمل.
ولا يجب أن ننسى الواقع السياسي، فمعظمنا لا يدري هل سيكون بيته في حدود “الدولة الفلسطينية” أم في حدود “الدولة الإسرائيلية” أم منطقة وسطى مثل مكبّ النفايات؟!
مسكين هو الفلسطيني، كان الضمّ عنده قديماً سبيلاً الى الراحة وتبادل المحبة، واليوم: أضحى الضمّ مصطلحاً يدلّ على اغتيال القضية الفلسطينية التي كانت بيد فصائل فشلت في رعايتها، وأنتجت جيلاً فاشلاً يتقن الشعارات والعبارات المثقّفة في وسائل التواصل الاجتماعي، بينما لا يعرف كيف يحافظ على الأمانة، ولا يعرف كيف يكون صادقاً مع نفسه ومع الناس، تغيرت أيديولوجيا الانتصارات عندنا؛ فأكبر انتصاراتنا اليوم أن ننجو من الفيروس لنصنع من هذه النجاة الباهتة انتصارا عظيماً.
Top of Form
Bottom of Form
بل إنها عصيبة هي الأيام التي يمرّ بها المواطن الفلسطيني، تكاد تكون بمستوى النكبة وربما أكثر؛ فالنكبة النفسية والفكرية التي نعيش في داخلها لهي أصعب بمراحل من نكبة المكان، ذلك أننا خسرنا المكان، وخسرنا الفكر والاستعداد النفسي، وخسرنا المعنويات والأيديولوجية الفلسطيني القائمة على المحاولة والصبر حتى استعادة الحقوق، ولم تقف الأمور عند هذا الحد، بل توسعت إلى آثار سلبية لم يعد من الممكن صياغتها في فترات قصيرة، أفرزتها حالة التردي في أداء الفصائل الفلسطينية، نتيجة انقسامها وانشغالها بمصالحها الخاصة على حساب الصالح الوطني، فأصبح تبنّج المواطن وتخدّره بجرعات من أخبار المساعدات، أو أخبار تبادل الأسرى، وأخبار أخرى لا علاقة لها بالقضية المحورية في الصراع الفلسطيني مع المستعمر الإسرائيلي.
على من نعتمد في مواجهة هذه الظروف التي تبدو مستحيلة؟ أنعتمد على قيادات أثبتت باستمرار فشلها في مواجهة التحديات الحقيقية؟ أم نعتمد على الطاقات الشبابية التي هي عماد الأمم وأساس المستقبل؟ كيف نحقق ذلك وقد أفرز الواقع في السنوات الأخيرة قياداتٍ وشباباً قادرين على التلاعب بالكلمات وتسوّل عطف الناس والتلاعب على مشاعرهم دون أيّ فعل حقيقي في الميدان؟ تتمثل سلوكياتهم في مجرد علاقات مع مسؤولين هنا وهناك و”برستيج وطني” مزيف، ووابل ضخم من الشعارات الوطنية الرنّانة، تجعلنا نشعر أننا في بحر من القيادات والمناضلين، ومستنقع من المنتصرين انتصارات وهمية واهية لا تعني شيئاً، بينما ينكشف الواقع حين ننظر إلى أوضاعنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
في ظل هذه الحالة من الضياع والتشتت، يرافقها مستويات كبيرة من الخوف، وتوجّه ردّ الفعل الإنساني في هذا المجتمع المظلوم في المستويات كلها نحو مسلكيات غريزة البقاء والدفاع عن النفس، نرى أنّه لا مفرّ من تغيير جذري شامل في مختلف المستويات المجتمعية والسياسية، لكنني بواقعية كاملة أكاد أجزم أنّه لا خروج من الأزمة نهائياً إلا بانتفاضات شعبية ضخمة وعارمة، تغيّر الخارطة السياسية كاملة في دولة الاحتلال وفي مناطق الحكم الذاتي الفلسطيني، لأنّ ما تسير فيه اليوم دولة الاحتلال من مخططات على أرض الوقع يؤكد أن دول العالم لن تستطيع التدخل بما يفيدنا أو يحمينا، ولا حقّ لنا نأخذه إلا بأيدينا، حتّى لو اضطررنا لقلب الطاولة علينا وعلى أعدائنا.
أ. جورج أبو الدنين – باحث في علم اجتماع اللغة