سارت الناقلة تتعبن في طريقها، وفي بطنها العديد من الركاب، تختلف أجيالهم وألوانهم، وأحجام طولهم، تتغامز أعينهم، متململة شطر الشمال وشطر اليمين، كل تسافر به عينيه عبر أخيلة المرآة التي تخيم على العقل أو أن العكس يقع.
في جنح الظلام، اشرأبت تعبر الكيلومترات وتطوي الطريق وراءنا، والربيع يزيد المنظر رومانسية على الحافة، والأصوات تختلط همسات وصرخات، وموسيقى صاخبة.
وهناك على الطرف الآخر من الناقلة، تسكن القبل والجولات الغرامية، باعثة جو المراهقة، وكأننا على رصيف بحر أسدل أمواجه.
هنا الموسيقى ورنين الهواتف، تتلاحق من خلالها أقوال آتية من كل مكان
– الو حبيبي
تتعامل البنت وتصطنع ، فترفع من صوت الهاتف، وتجيبه :
– وي حبيبي، توحشتني ونزيد :
– – نسيتني يمكن بدلتني
يتساءل الرجل وزوجته :
– بكري كان الحياء ميزتنا، لا أحد يعرف ما كنا نعمل، هذا الجيل لا حشمة لا وقار
ويردفان :
– زمان يا له من زمان.
ليأتي صوت هائج من الخلف :
– شرفتم و هرمتم… شيئا من السكوت .
تتتابع القهقهات من هنا ومن هناك
يقتل الكلام لحظات، وكأننا في الطريق لدفته ، ونغمات الخليجي، تأتيني مكسرة جدار الصمت وكأننا في صحراء قاحلة، نرعى الغنم ونركب الجمال ، والرياح تحمل التراب، الذي لا يعمي حسب زعمهم، هكذا خيل إلي المنظر في لحظات توديع الحاضر، بعدما جثم الماضي على ذاكرتي، وبأن البداوة تغلب علينا، حتى ولو سكنا في واشنطن.
بين الفينة والأخرى، تسافر عيناي إلى العالم الأخروي ، نوم ثقيل يحملني إلى عالم قرمزي من الأحلام ، فراشة أطير محلقا وحدي، لا أسمع إلا زقزقة العصافير من بعيد، وعويل الرياح ونسمات ربيع أخرى.
لم يتبق على محطة العشاء، إلا ثلاثين دقيقة، بدأت عيون الفتيات تتغامز وفي همسات:
– أ الزين وحدك ممكن نجلس بالقرب منك
– تفضلي الحبيبة، أربع ساعات وأنا أنتظرك.
– كنت مشغولة في الهاتف مع…
– حبيبك.
– لا
– أخي أقول له حبيبي
يصمت برهة:
– إلى أين؟
– الناظور
– وأنا أيضا
يخرج مساعد السائق، بعد أن توقفت الناقلة، يعلن عن نصف ساعة عشاء.
تختلف طلبات الزبناء، كل وغايته، تتشابه الوجوه، وتعتاش جنبا إلى جنب، لكن المادة تقلب كل إنسان إلى حاله، لا تتوافق مع الآخر، كم عجيب حال هذه الدنيا .
انقضت المدة، وبدأ التنبيه بالركوب ، الكل يجري إلى مكانه، تهوي الأجساد إلى كراسيها في غناء، بعدما ارتوت البطون وشبعت، الكراسي تستهوي أكثر من كان شبعانا، وتغيظ من كان جائعا.
تتدحرج الناقلة كحجر رمته عصابة من فوق جبل، أم كلثوم تشدو بصوتها الصادح، كأنها تذبح ضجيج العالم.
– فات الميعاد
وبقينا بعاد
تساءلت مع نفسي، كم أحرقت هذه النار، نار الدنيا، ومن أحرقته صار رمادا تذروه الرياح.
الشخير يطربني، والتقيؤات تسمع وصولها إلى البلاستيك ، البطون لم تترك الثلث للهواء، والمناجاة لا تفارقنا:
– المهم مشيت عند زوجي صغيرة ، ثم تتأوه لحظة.
في عرس بهيج، سررت بذلك إلا أن الأيام أكدت لي أن اليسر يتبعه العسر، مع الزوج مع العائلة، عانيت من كل شيء، كان ثمرة زواجنا ولدا، لم أعد أحتمل أكثر من الذي ذقته، فطلبت الطلاق، حصلت بالفعل على حريتي، حررت من عبودية رجل وأسرته، واعتقلت من مجتمع، يستهويه جسد كل فتاة يانعة، يفتك به، ويفرغ فيه جام غضبه، تعبت من هذه الحرفة ، الله يجيب ولد الناس يغطيني.
اغرورقت عينا من تجلس بالقرب منه هذه الفتاة ، شاب طويل يلبس بأناقة، قل بشياكة، له شارب مقصوص الجوانب يشبه شارب هتلر.
– ماتت أمي وأنا صغير لم أبلغ من العمر بعد ثلاث سنوات ، تزوج أبي من امرأة فظة غليظة القلب، لا تعرف الرحمة ولا الحنان، سيطرت على عقل ولينا، وكانت ذات جمال أخاذ منع أبي وألهاه عن دوره الأبوي ، فتحول إلى سلطوي، لا يترك يوما دون أن يؤذيني ، إنه حديث الوسادة.
أنساني هذا الوضع في كل شيء، فغادرت الدار بعد أن اشتد عودي للبحث عن عمل في هذه المدينة البعيدة، ولكن أبعدتني عن ذل والدي.
الآن، وكأنني سائر إلى جهنم الزوجة وسعير والدي ، ولكن يومين وأرجع إلى حالي.
أنا سميرة، وكانت فتاة طويلة ورقيقة جميلة شعرها طويل و عيناها عسليتين.
راني راجعة أخاف من سخط الوالدين، نلتقي إن أردت، سلمته رقم الهاتف يجيبها :
– أكيد
ينقص السائق من السرعة، قرب علامة 60 تتبعها علامة 40 ، مدينة الناظور ترحب بكم.