صدر مؤخراً كتاب ( فتى من سومر) تحت تجنيس ( قصص) للقاص والمترجم البصري ( لقمان السبتي) وهي تتضمن (19 قصة) قصيرة توثق يوميات الألم والوجع العراقي ، عبر فضاء لغة سردية تنضوي على تجليات المفردة المحلية والمكان المحلي والثيم المحلية التي تصطبغ بالبعد الإنساني الواضح في اغلب تلك القصص حتى وان انزاحت بعض الأحيان طبيعة المباشرة في طرح الفكرة ، ولغة لقمان السبتي في هذه المجموعة انما تقترب من لغة السرد الروائي ، على مستوى تاثيث (ثيمة الحدث المركزي) تحرك الشخصيات ، الأفعال ، الوصف ، الا ان المجموعة لا تخلو من الشعرية العالية لما للقاص من لغة عالية في انتقاء مفرداته ناهيك عن تأثره (بجنس الشعر) كما سيلاحظ بتوظيفاته العديدة بهذه المجموعة والموزعة على اغلب القصص ، فضلا عن البيئة التي يعيشها القاص والتي كانت منطلقات لتأسيس (عتبات) المجموعة ودلالاتها ، عبر المفردة المحلية وتحولاتها في المنظومة المجتمعية العراقية ، انه يتحدث عن فضاء محدد من البيئة المحلية ، فضاء تعيش وتتعايش فيه الشخصيات السردية لهذه المجموعة ، والتي تبدو بانها خيوط متواصلة، الا ان السارد من خلال هذه المفردات والسهل الممتنع استطاع ان يضع لنفسه بصمة في كل قصصه السردية، منطلقاً من قصة (المخبل) هذه المفردة الباعثة على التحرر والحرية من رباط الوعي والعقل ( بوصف العقل هنا منظومة حازمة لسلوكيات معينة محددة) أراد القاص من خلال هذا (المخبول) ان يفتح فضاءات من التحرر والحرية الناقدة لسلوكيات المجتمع وتمظهراته السلبية ، فلا حياء مما يقوله (الخبل) ضمن منظومة المجتمع العراقي على عكس أي سلوك بائن من (العاقل)
(( انه مخبل فهذه الكلمة ما هي الا جواز سفري لكل أفعالي العفوية عندي والمقزز عندكم دعوني لو سمحتم استعير بعضاً من فلسفتكم العقلانية لاقول لكم : اني رهن عقلي يفعل بي ما قد يخالف عاداتكم وتقاليدكم واعرافكم / المخبل ص15))
ان القاص ينطلق من (بؤرة) الجنون وفلسفته ، ليكون مطرقة لتحطيم العادات والتقاليد البالية او لكشفها وتعريتها امام الاخرين ، فالمجنون او (المخبل) هنا يمثل دلالة رفض الواقع بتمظهراته كافة ، وبتحليل سيكولوجي سندرك انه يمثل ( اراء القاص) حسب وجهة نظري ، فالمخبول يمثل الخروج عن السائد وتحريك الراكد النمطي ضمن منظومة التعقل في منظومة المجتمع، وضمن مدلولات المخبول هو البلاغة والحكمة عبر ما يأتي من مفردات على لسانه تثير التساؤلات لدى الاخر.
كما تتركز قصة (الحواسم) حول مفردة محلية سادت خلال حرب 2003 وبعد ذلك تحولت سيرورتها الى (العشوائيات) التي يسكنها من لا سكن له والفقراء من أبناء الشعب العراقي ، لتشكل هذه (الحواسم) نتيجة في المقام الأولى وبعد ذلك (حالة للفقر) المستشري في بلدنا ، ويرسم القاص (بيئة) هذه الحواسم ضمن جماليات القبح المتمثل (بجغرافية مملوءة بمظاهر القبح) عبر صورة فوتوغرافية تشير الى هذه البشاعة التي تحيط بهذه المنازل :
((في منطقتنا المنسبة يتحولق الحواسم من حولها كالحلق ويحيطونها من كل جانب ، ويتغلفون فيها تغلغل الدم في الشرايين ، …………تطفو تلك البيوت على ماء ليس كالماء فهذا له طعم ولون ورائحة تنتجه كل البيوت مجتمعة والخلاصة فالحواسم بيوت من لا بيوت ولكن بقايا من بقايا/ الحواسم ص23).
القاص يوثق لمرحلة (تأريخية) من الألم والقساوة التي يعانيها المواطن العراقي على امتداد نصياته السردية ومنها هذه القصة ( الحواسم)، ويستمر القاص بنقد منظومة القيم المجتمعية المغلوطة ، من خلال قصة (عاشقان في ظلال عاهرة) فالثيمة تقول ما ذنب فتاة نقية خرجت من رحم ام عاهرة! وتهيمن مجسات التردد والشك ، بين فعل الاقبال والتردد والشك ، بين إرادة (المحب) وبين ارادات الناس ومصداتهم ونظرتهم إزاء هذه العلاقة ما بين (العاشق) وابنة العاهرة! وعبر استدعاء حجج للجدال الحاصل مع صديقه (سرمد) في هذه القصة تارة من الكتاب الحكيم (أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ) وتارة مقتطعة من حديث نبوي : “تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس” ،ولان القاص تفتنه حكمة الشعر فهو يستدعي بعض المقطوعات الشعرية موظفها في هذه القصص كما في نص الشاعر محمد طالب الاسدي (ص35) ومقطع من قصيدة عبدالرازق عبد الواحد (ص40) ويوظف القاص العديد من الآيات القرآنية في معرض الحوارات والجدالات التي تدور بين شخصياته القصصية كما في قصة (المقصلة) بما تحمل من ابعاد اجتماعية في منظومة العلاقات الزوجية ، ويؤشر القاص من خلال قراءة دلالات تلك التوظيفات حجم الاختلاف والتناقضات واثرهما على اثارة النزعات والصراعات في منظومة العلاقات الإنسانية في مجتمعنا ، وكذلك يؤشر البعد (السيكولوجي) والمؤثر الديني في بناء تلك المدلولات عبر استدعاء القيمة الكبرى للآيات والاحاديث الدينية ، وإدانة السلوكيات السلبية بتمظهراتها كافة وهي السلوكيات المنقودة او المحظورة وفقا للمفاهيم الدينية، فهو يسعى لتصحيح العديد من الصور السلبية عن هذه المفاهيم الدينية:
((فالرب الجميل ملؤه الرحمة والحب، ولكنهم يردون ربا ملئه الغضب والانتقام وان لم يجدوا هذا الرب فسيرسمون لهم ربا حسب مقاساتهم والوانهم/المقصلة ص50))
والمدلولات التي يمكن التقاطها بهذه المجموعة وتكرارها : من (سجادة الصلاة) الى فكرة (الرب) واستدعاءات الآيات ، الى توظيف شخصية يونس في قصة (جوف الحوت) وحكمة الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) عن (تاريخ الانسان) وغيرها يمكن ان يبين ذلك البعد السيكولوجية لشخصية القاص في منحاه الديني ومؤثرات البيئة على صياغة وتأثيث سردياته وقصصته وانتقاء حتى مفرداته ، وهي ضمن مهيمنات السرد (التراكمات) الموروثة من الثقافة البيئية التي تشكل وعي الكاتب، وهذا ما يتوضح كذلك في قصص (جويسمية ص121، اهل الماء176، فتى من سومر 181) وكذلك الإشارة الى منظومة الوعي ولبعض الكتاب العالميين والفلاسفة كما في قصة ( زافون ص144) وتحولات المدلول للكتاب بوصفه صورة للوعي ، ولمدلول الثقافة ، وعبر دلالة المسطور الاتي في تلك القصة:
((هكذا نحن البشر نموت ولا خلود الا للكلمة ، والكلمات أرواح يا صديقي ، فروحي معك الان كالكلمات التي تركت اثرها فيك! الكلمة فكرة او شعور والفكرة والشعور تصدر من الاحياء/ زافون ص148)
وهذه القصة بالذات كانت معنونة باسم (كارلوس رويث زافون) صاحب السلسة الروائية الشهيرة (مقبرة الكتب المنسية) ولكن في سياق وأسلوب القاص لقمان السبتي. ان القاص في مجموعته هذه (فتى من سومر) وثق (يوميات قريته) المحلية ضاجة بالمسارات الإنسانية ، التي توثق لحياة انسان اليوم العراقي بما يعانيه من صور معاناة يومية ، منطلقاً من هذه المحلية لرسم صورة جدلية ما بين المعلن والمضمر من حياتنا ونقد السلوكيات اليومية التي شكلت عبء وأزمة حقيقية على مفهوم العلاقات للانسان المعاصر مع (بيئته ، فكره ، بني جنسه، يومياته) وعبر رصيده اللغوي المكتنز بالمفردة المشحونة بالدلالات ، والشعرية ، والمحلية ، استطاع ان يصل الى القارئ بثيم قصصه.