بيوت من حجر وطين ، يشد بعضها بعضا ، بين جبال تكسوها أشجار الأرز . لا طريق معبدة ، ولا مستشفى ، ولا إدارة . مدرسة صغيرة عبارة عن قاعة وغرفة مجاورة ، خصصت كسكن للمعلم ، على هامش الدوار بالقرب من حقول اللوز والتين والجوز التي تنعكس ظلالها على مياه الوادي ، داخل مساحات صغيرة ، تفصل بينها حواجز على شكل خطوط رقيقة من حجر متراكم بجانب بعضه البعض . ينصع بالبياض كأن الماء صقله ونظفه من الأوساخ والأتربة .
بعد فرض الحجر الصحي ، وإغلاق الأسواق الأسبوعية ، تضررت حياة أهل القرية . لم يعد بإمكانهم بيع جدي أو خروف أو جوز أو بعض الدجاج البلدي لاقتناء لوازم البيت من سكر وشاي وزيت .
بدأت بعض المواد الغذائية تشح يوما بعد يوم في دكان الحاج علي . اقتناء حاجيات جديدة يحتاج إلى المال ، والمال بدأ ينفذ . فَتَح بابَ الديون بحذر ، وبقدر أدنى من الشاي والسكر .
في اليوم الأول من شهر رمضان جمعهم عون السلطة . وقال بأن القائد طلب منه أن يخبرهم بأن (سيدنا) قد خصص دعما للأسر التي فقدت موردها الاقتصادي بسبب جائحة كورونا . وأنه يكفي للحصول على هذا الدعم أن يرسلوا تصاريح للرقم 1212 الذي أحدثته لجنة اليقظة الاقتصادية .
لاح في الأفق أمل جديد . رغم أن أغلبهم لا يتوفر على هواتف شخصية ، فقد استغلوا هواتف أبنائهم الذين عادوا من ثانويات الإقليم إلى بيوتهم .
نشط الأبناء في ملأ تصريحات الأهل والجيران لإرسالها إلى الرقم 1212 . عملية استغرقت الكثير من الوقت والجهد ، ونالت إعجاب ودهشة الكبار . واقتضت اقتناء بطاقات تعبئة بخمسة دراهم أضيفت إلى ديونهم عند الحاج علي البقال .
الصعود إلى قمة الجبل عمل شاق ومضن خاصة في شهر رمضان ، والطريق موحش ومخيف ، ويحتاج إلى أكثر من ساعة مشيا على الأقدام . لكنه أقرب مكان إلى القرية يلتقط إشارة شبكة الاتصالات .
أخيرا تمكنوا من بعث التصريحات ، والعودة إلى القرية . عم الناس فرح كبير. زغردت النسوة ، وصفق الأطفال ، وجروا يهتفون بين الأزقة بأن الرسائل طارت إلى العاصمة . فسر بعضهم بأنها ستصل إلى الملك ، وسيطلع عليها ، ويرسل إليهم الدعم . البعض تخيله قدرا من المال ، والبعض الآخر قال بأنه كميات كثيرة من المواد الغذائية ستكفيهم سنة بتمامها . قطعوا الكثير من الوعود للأطفال والنساء إذا توصلوا بالدعم ، بأن يشتروا لهم أصناف متنوعة من الحلويات والقماش والعطور ومستلزمات التجميل . لم يسبق لهم أن طلبوا شيئا من أحد . حتى المرشح الذي يرسل من يكذب عليهم مرة كل خمس سنوات لم يطلبوا منه شيئا . منذ أكثر من أربعين سنة ، وهو يعدهم بالطريق والمستشفى وتوسيع المدرسة ، وتوفير كل ما يحتاجونه من سلع . لكن شيئا من ذلك لم يحدث . وشكك البعض في أن يترك أصحاب الحسنات هذه الرسائل تصل إلى الملك .
لابد من صعود أحدهم كل يوم إلى قمة الجبل وانتظار أن تستقبل الهواتف جواب الرقم 1212 .
وقع اختيارهم على محمد للقيام بهذه المهمة ، وهو رجل أربعيني بوجه نحيف وقوي البنية، يملك قطيعا صغيرا من الماعز ، ويحظى باحترام جميع الأسر . الطريق المؤدية إلى قمة الجبل ضيقة ، ومحفوفة بالمخاطر . كم مرة دخل في صراع مع ذئب أو ثعلب اشتد عليه الجوع ، فنزل خلسة لخطف جدي صغير وافتراسه . أخذ معه كلبه الأرقط ليؤنسه في وحشة الطريق . أحس بإرهاق شديد ، وهو يتسلق الأحجار ، ويصعد الجبل متكئا على عصاه . ويتوقف بين الحين والآخر لالتقاط أنفاسه ، وانتظار الكلب الذي يظهر ويختفي . الشمس هذه الأيام تبدو متوهجة ، وكأنها تحررت من رطوبة الجو ، وضباب الربيع . لم يصل إلى القمة حتى نشف حلقه ، رغم توزيعه لطاقته البدنية بشكل ذكي حتى لا يتعرض لعطش قاتل . أخرج الهواتف من حقيبة قماش صوفية مزركشة بالنوار ، تنازلت عنها فاطمة زوجته بشكل مؤقت ، ونشرها تحث ظل الشجرة ، واتكأ بجانبها ، وهو يفحص هل تعمل ، وعليه التأكد من وجود إشارة الاتصال . بعض هذه الهواتف متهرئ وقديم ، أغلفتها مكسورة ، وتظهر الشقوق من جوانبها بشكل جلي . لذلك عليه أن يتعامل معها بلطف وكياسة ، ويبعد عنها الكلب ، ويضعها في الظل حتى لا تزهق روحها بين يديه ، ويدعي أصحابها بأنه كان السبب في تعطلها عن العمل . عندما انتهى من ذلك نظر إليها بعطف ، وتمنى ألا يصيبها مكروه ، ورفع يديه إلى السماء ، وطلب من الله والرقم 1212 أن يستجيبا لدعوات سكان القرية قبل أن يفتك بهم الجوع . أزال قطعة حجر حادة من تحت ذراعه . سرقته وسنة خفيفة ، تخيل نفسه يرى الملك يمر واقفا في سيارته بالقرب منه ، وهو يلوح مع الناس باليدين معا ، ويدعو له بالنصر ، والعيش الكريم ، وخلف الموكب شاحنات مليئة بعلب السكر والشاي والزيت والخضر والفواكه وأكياس الدقيق . أيقظته رنة جرس الهاتف من غفوته . لم يجب عن المكالمة كما أوصاه أصحاب الهواتف بذلك . مهمته تنحصر في استقبال أجوبة الرقم 1212 ، والحفاظ على البطاريات حتى لا تنطفئ الأجهزة ، وتضيع حقوق الناس . رأى نفسه أمام مسؤولية جسيمة . التقط قطعة حجر ملساء ونقية ، ورأى أنها تصلح للتيمم ، مادام المكان لا يتوفر على ماء للوضوء . واعتقد أنه إذا صلى الظهر والعصر بخشوع وورع ، فإن دعاءه قد يصل إلى السماء بسرعة ، لأنها تبدو قريبة مثل مظلة زرقاء صافية على امتداد البصر ، تغطي الأرض فوق رأسه . وعليه أن ينتظر حتى يقترب آذان المغرب . ويبقى له من الوقت ما يكفي للوصول إلى القرية ، فالنزول من أعلى لن يكلفه جهدا كبيرا .
قبل الفطور أعاد الهواتف إلى أصحابها حتى تكون مشحونة ، وجاهزة في الصباح . ملامح وجهه تكشف لكل من تسلم جهازه ، بأنه لم يوفق في الحصول على جواب .
مر أسبوع بدون أجوبة . في كل يوم يصعد محمد إلى الجبل صحبة كلبه في الصباح الباكر ، ويعودا خائبين في المساء . حتى شك البعض بأنه قد يكون وجه نحس ، يمنع الرسائل من أن تطير من الرباط .
بدأ الشك يتسرب إليهم . قال أحدهم :
ـ من يدري قد يعترض القائد أو المرشح أو (الشيخ)* هذه الرسائل ، ولا يتركها تصل إلى الملك خوفا من أن يُفتضح أمرهم .
اختلف معه جاره ، وحذره من ربط القائد والشيخ والمرشح بهذا الموضوع ، فإذا وصل ذلك إلى سمعهم ، فإنه قد يقضي على أي أمل في الحصول على الدعم .
قال ثالث :
ـ ربما كثرة الرسائل لم تسمح بعد بالاطلاع على رسائلنا .
وشكك رابع في قدرة شبكة الاتصال على نقل الرسائل . ووصفهم خامس بالمجانين ، وكأن الملك لا شغل له غير التفرغ لقراءة رسائلهم . واقترح أحدهم على محمد ألا يأخذ الكلب معه في المرة القادمة . فقد سمع مرة إماما في خطبة الجمعة ، ينهى الناس عن السماح للكلاب بدخول المنازل ، فهي حسب زعمه تطرد الملائكة منها .
في الأسبوع الثالث بدأت بعض الأجوبة تصل تباعا . وأخيرا اطمأنوا على أن رسائلهم وصلت إلى الرباط . الآن عليهم انتظار موعد آخر لصرف الدعم كما قالت الأخبار في المذياع . لكن القرية لا تتوفر على وكالة بنكية ، أو إدارة بريد ، أو دكان تسهيلات . أقرب هذه المؤسسات ، تبعد بحوالي عشرين كيلومترا أو أكثر .
كورونا لم يصل إلى القرية . كم ضحكوا يوم سلمهم عون السلطة مجموعة من الكمامات ، وطلب منهم لبسها هم وأبناؤهم . اعتقدوا بأنهم يجب أن يخفوها ، ويحتفظوا بها للأيام الصعبة القادمة .
كل مساء ينتظرون عودة محمد من الجبل . يمر على البيوت حزينا صحبة كلبه ، يعيد إليها الهواتف لشحنها . كل صباح يتجدد الأمل بحملها إلى قمة الجبل . قد يستجيب الرقم الملعون لتوسلاتهم ، وتلتقط الهواتف الأكواد ، ويذهبون إلى المركز لسحب الدعم ، واقتناء كل ما يحتاجونه من مواد غذائية ، والوفاء بوعودهم للنساء والأطفال .
تأخرت الأجوبة أكثر من اللازم . أصبحوا يخافون من وباء الجوع أكثر من كورونا . قلوبهم معلقة مع قمة الجبل ، تنبض بين الرجاء واليأس . جواب الرقم اللعين 1212 مثل (جودو) ، قد يأتي ، وقد لا يأتي . لم يعودوا قادرين على تحمل قسوة الانتظار . بعضهم هدد بأنه إذا لم يتلقوا الرد في الأسبوع القادم حول تاريخ وصول الدعم إلى القرية ، فليس أمامهم سوى الذهاب رفقة أبنائهم ونسائهم إلى القيادة ، أو العمالة ، ولن يعودوا إلى القرية حتى يخرج الرقم الملعون عن صمته ، أو يظهر (جودو) .
—-
المعجم :
ـ الشيخ ممثل السلطة في القرية .
مراكش 20 / 05 / 2020