ركبتَ دراجتك العادية متجها إلى المقهى . ما دامت المسافة بين البيت والمقهى لا تستهلك أكثر من عشر دقائق ، فلتُطِلِ الطريق ، وتتحايل على نفسك ، وتوهمها بأنك أديت ما يعادل الواجب اليومي من الرياضة . على الأقل نصف ساعة فوق الدراجة ، قد تعادل أكثر من ساعة مشي . المهم أن يشعر الإنسان بأنه يَعْرَق .
فجأة سقطت فكرة جميلة في ذهنك . الأفكار الجميلة مثل الطيور الجميلة صيدها نادر . لكن لماذا لا تزورك هذه الأفكار التي تظن أنها جميلة ، إلا عندما تكون راكبا فوق الدراجة ؟ على كلٍّ ستكون موضوع المساء . فقط عليك ألا تنسى مضمونها كما يحدث معك عادة .
في بعض الأحيان تأخذ معك مذكرة صغيرة إلى المقهى . وإذا حامت فكرة ما وأعجبتك ، قبضت عليها ، ودونتها حتى تعود إلى البيت وتطورها . فكرت أن تتوقف ، وتدون هذه الفكرة في مذكرة الهاتف ، ما دمت لا تتوفر على مذكرة من ورق الآن ، قبل أن تطير بعيدا بفعل النسيان .
يصعب التوقف في الطريق ، والتقاط فكرة وتدوينها . سيأخذ ذلك بعض الوقت ، والأهم أنه سيثير انتباه المارة . المارة عندنا في مراكش ، لا يشبهون المارة مثلا في فرنسا أو السويد . في فرنسا أو السويد يمكن أن تقف ، وتكتب ما تشاء دون أن ينتبه إليك أحد . ومن قال ذلك ؟ هل سبق أن سافرت إلى فرنسا أو السويد ؟ كل الذين زاروا فرنسا أو السويد يقولون بأن الناس هناك لا يهتمون بهذه التفاصيل الذاتية والصغيرة .
المارة عندنا فضوليون . حتى الذين يجلسون في المقاهي سيتساءلون ، ماذا يفعل ذلك المعتوه ؟ ترى ماذا يكتب ؟ هل يكتب الإنسان ، وهو واقف في الطريق ؟ لا بد أن شيئا ما حدث للرجل ! قد تكون هذه الوقفة بداية لجنون جديد يرتبط بالهواتف النقالة . بالأمس كان الإنسان عندما يبدأه الجنون ، يتحدث مع نفسه بصوت عال . آه لو تحدثت الآن بصوت عال ماذا سيقول الناس ؟ أكيد أن أغلبهم سيشفق عليك ، ويدعو لك بالشفاء من الحمق .
يُقال والعهدة على الرواة ، أن الفرنسيين والألمان وغيرهم من الشعوب الراقية ، لا يحبون الناس الذين يتحدثون في الشوارع بصوت عال . ولن يكتفوا بوصفك أحمق . لا يا حبيبي سيعتقلونك . ويغلقون عليك في مصحة . ويناولونك كل ما يشتهون من الأقراص المهدئة ، حتى تطير جميع الأفكار من رأسك ، وتصبح مجنونا بالفعل .
إذن لا تتحدث مع نفسك بصوت عال ، لا هنا ولا في بلد راق . دع الأفكار التي تراودك في طريق المقهى سرا بينك وبين نفسك حتى تنضج وتتحول إلى موضوعات . عندما تنشرها في المساء على صفحة أحد المواقع ، سيقرؤها العديد من العقلاء . وقد يرى فيك بعضهم مشروع كاتب ، أو أديب ، أو ما شابه . المهم أنهم لن يتعاملوا معك كما قد يفعل الناس في الشارع ، وهم يعتقدون بأنك إذا لم تسر بحشمة ووقار ، وتستنفر كافة قواك العقلية ، سيحكمون عليك بأنك أحمق
تصل المقهى . تجلس . يأتي النادل . يضع كاس القهوة دون أن يأخذ رأيك في الموضوع . يتصرف بحسن نية ، كأنه يوحي بأنه يعرفك من زمان ، ويقرأ أفكارك ، ويعرف ماذا تريد أن تشرب . لكنه لا يعرف بأنك لا تحب أن يختار الناس ما يجب أن تشربه أو تفعله !
لو جلست معه على انفراد ، وشرحت له ذلك لاتهمك بكثرة الفهم . ربما يريد فقط اقتصاد الوقت والحركة والكلام ، ولم يخطر له على البال ما تفكر فيه أنت !
لا بأس أنت في حاجة كل صباح لفنجان قهوة سوداء خفيفة أو عادية . وتفضل دائما أن تكون خفيفة ، لأنك لم تعد تستعمل السكر . القهوة بلا سكر مارة يا أخي. المرارة أصابت كل شيء في حياتنا . كل الأصدقاء الذين يجلسون معك لا حظوا بأنك تشرب فنجانك بسرعة . فسرت ذلك غير ما مرة بأنك لم تعد تدخن ، وبالتالي ما الفائدة من تناول القهوة بعد أن تبرد ؟ تذكرت مهدي (الكسال)* رحمه الله . كان يشبه القهوة باردة بكوكاكولا سخونة !
طيب الآن أخذت إحدى الجرائد . أول عنوان فاجأك بمانشيط عريض هو اسم الرئيس الجزائري الجديد . ضحكت مع نفسك ، وقلت كان الله في عون الأمهات والشيوخ . أما الشباب فلم تعد تهمه مثل هذه الكلمات ، لأنه بعد الانحدار الثقافي وهبوط المستوى التعليمي والقيمي والأخلاقي ، أصبح يستعمل أقبح من تلك الكلمة . وهل تلك الكلمة قبيحة أصلا ؟ إنها مجرد اسم لعضو تناسلي عندنا في مراكش . قبل أربعين سنة . فعلها محمد شكري رحمة الله عليه في الخبز الحافي ، لكنهم منعوا كتابه من التداول . أنت أيضا استعملت مثل هذه الكلمات خارج المناطق المحرمة . الجميع يستعمل مثل هذه الكلمات ، ولو مع نفسه ، لكنهم لا ينطقون بها بصوت عال وسط أسرهم ، أو داخل فصول الدراسة ، أو أمام الناس الذين يعتقدون بأنهم محترمين ، اللهم إذا كسروا الأغلال التي تجعل من الإنسان شخصا يتحلى بالوقار والحشمة أمام الناس ، وتحدثوا بصوت عال .
آه لو اطّلع الناس على ما كتبه الشيخ محمد النفزاوي ، وهو فقيه وعالم دين كبير ، عاش في القرن الخامس عشر ميلادي . يعود له الفضل في تأليف أول كتاب في التربية الجنسية (الروض العاطر في نزهة الخاطر) في تاريخ الحضارة الإسلامية ، والأوصاف التي أطلقها على العضو التناسلي عند الرجل والمرأة . ومن قال لك بأنهم لم يطلعوا عليه ؟؟ ولماذا إذن تحمر وجوه وتسود وجوه ، عندما تسقط كلمة سهوا على لسان طفل صغير تشير إلى ذلك الشيء الذي يشبه اسم الرئيس الجزائري ؟
وضعت الجريدة جانبا . تذكرت الفكرة التي راودتك في الطريق لتدوينها في مذكرة الهاتف . حاولت استعادتها . لم تعثر على شيء . بدت ذاكرتك أشبه بصفحة بيضاء . نافرة مثل حصان بري غير مسيس . لا تستجيب لرغبتك . تساءلت مع نفسك ، لماذا تتذكر أحداثا مضى عليها أكثر من خمسين سنة بالتفصيل الممل ، كأنها تحدث الآن أمام عينيك ، وتعجز الآن عن استحضار جملة من بضع كلمات لم يمر عليها أكثر من ساعة ؟ لا بد أن بائع الليمون الذي توقفت عنده كان السبب في ذلك . كنت راكبا فوق الدراجة ، والفكرة تطير ، وتسير بمحاذاتك . هل كانت تركب هي الأخرى دراجة ؟ من يدري ؟ ربما كان لها جناحان . الأفكار مثل الملائكة تطير بجانب الناس ، لكن لا أحد يراها . تريد أن تعتقلها لتختمر في ذهنك ، ولا تفارقك لحظة واحدة . لكن عندما توقفت ، ونزلت من فوق الدراجة ، وتبادلت الحديث مع ذلك البائع المتجول حول مذاق الليمون وثمنه وتساقط الأمطار والرياح ، نسيت أن فكرة كانت تصاحبك في الطريق إلى المقهى . أكيد أنها طارت إلى ذهن آخر . ربما مر من نفس الطريق شخص مثلك مهووس باصطياد الأفكار ، سطا عليها ، واصطادها بشباكه ، وأنت مشغول بهم الليمون ، وأحوال الطقس ، والباعة المتجولين . قد تظلم الليمون والباعة المتجولين . من المحتمل أن يكون سيدي عبد الكبير (عامل التقدم في السن) كما يدعوه شيوخ المتقاعدين بمراكش هو الذي فعلها .
بعض الأفكار حمقاء أيضا . تعتقد أنها إذا هربت منك ، ستشل يدك ، ولن تستطيع الكتابة . تبدو مخطئة ، ولا تدري بأن الإنسان أشد حمقا منها .
مراكش 23 دجنبر 2019
——–
– الكسال : شخص يعمل في الحمام يساعد الزبائن ويحك أجسامهم ويغسلها من الوسخ ويعمل لهم بعض الحركات التي يحسون معها بالراحة عندما يخرجون من الحمام . وكل ذلك بمقابل .