أوقف سيارة أجرة . فتح الباب ، وجلس بجانب السائق. بعد التحية حدد له الوجهة.
مسح العرق عن جبينه، ولتكسير رتابة الصمت، اشتكى للسائق من الحرارة المفرطة التي تعرفها المدينة هذه الأيام.
رد السائق ببرودة :
ـ الأمر عادي، والفترة يطلق عليها أهل مراكش شمس البلح. وهي الشمس التي تُنضج تمر النخيل، ومع الجفاف قد تمتد إلى ما بعد أواسط أكتوبر.
قال الزبون متأسفا :
ـ البلح افتقده الناس منذ زمن بعيد، وبقيت فقط شمسه!
عادت به شمس البلح إلى زمن الطفولة. رأى أشجار النخيل محملة بغذوق صفراء مليئة بالبلح، تزين أسوار المدينة القديمة. الأغلبية المطلقة من السكان كانت تقطن، وتعمل وتعيش داخل الأسوار.
خريف مراكش يختلف عن خريف المدن الساحلية. ترتفع درجات الحرارة بشكل ملفت، خاصة إذا مرت بعض أيام فصل الصيف معتدلة. ينصح الكبار الصغار أثناء خروجهم للعب، باستعمال القبعات الواقية من أشعة الشمس التي قد تتسبب في انتقال حرارتها إلى جسم الإنسان، فتصيبه بحمى، تجعله طريح الفراش، وتحتم عليه يوم الاثنين زيارة مستوصف الحي، لأخذ بعض الأقراص أو النصح بشرائها من الصيدلية. وفي أغلب الحالات تضطر الأم أو العمة إلى التدخل، والقيام بمهام طبيب المستعجلات. تأخذ نبتة (المخينزة)*، وتطويها في قطعة قماش، وتبللها بماء ساخن، وتضعها كضمادة على جبهة المريض، فتنخفض حرارته بشكل تدريجي.
يوم الجمعة يتعطل الصناع التقليديون عن العمل. ويوم الأحد تتعطل المدارس والإدارات.
يخرج أطفال الحي عن الأسوار على شكل عصابات سواء الذين يتابعون دراستهم في المدرسة، أو الذين يعملون في الصناعة التقليدية.
الأطفال صغار السن يلعبون، ويقذفون أحد أغداق النخيل القريبة من الأسوار بالحجارة لتتساقط بعض الثمار ويجمعونها، أو يتطوع أحدهم، ويصعد إلى أعلى النخلة بحبل، ويضرب الغدق بآلة حادة حتى يفصله عن منبته، ويتهاوى إلى الأرض. وكلما ابتعدوا عن السور افتقدوا الأمان، وعادوا أدراجهم خوفا مما لا تحمد عقباه.
أما الأطفال الأكبر سنا، والأكثر جرأة، ومغامرة فيفضلون الابتعاد عن الأسوار بالانتقال إلى أحياء مثل (عين يطي) ، أو بالقرب من منطقة النخيل في طريق الدار البيضاء. فبعد كر وفر، ومشاكسة مع الحراس، يعود الجميع في المساء محملا بغذوق مليئة بالبلح.
لا بد من إخفاء البلح عن أهل البيت من الرجال، لأنهم إذا رأوه، فقد يعرض الطفل نفسه لعقاب بدني شديد بسبب خروجه عن السور، وابتعاده عن البيت من غير إذن. وهنا تتواطأ الأمهات والعمات مع الأطفال، ويخفيان الغنيمة، أو ينسبانها لأحد أبناء الجيران.
اختفت اليوم أشجار النخيل من جانب الأسوار، وحل محلها بنايات من الاسمنت. وحتى الأشجار التي كانت تشكل واحات بالقرب من بعض الأحياء أهملت وجفت وتحولت إلى مجرد ديكور، يزين بعض الصور المخدومة التي تعرض كإشهار لدعم السياحة بالمدينة.
توقف الطاكسي وسط غابة من الاسمنت. نزل الزبون ببطء، ووجهه يتصبب عرقا. لاذ بالصمت، وهو يناول السائق أجرته.
قطع الطريق ، صفير القطار يدوي من بعيد . تذكر أنه كلما ركب القطار، واقترب من مراكش ، يشعر بفرح غريب ، عندما تلوح له من بعيد أشجار النخيل ، ووراءها جبال الأطلس . يتردد في خاطره صدى أغنية مراكش يا وريدة بين النخيل.
سار بضع خطوات، ثم قال لنفسه متحسرا :
ـ يا أخي الوردة ذبلت ، وأشجار النخيل جفت ، ولم يبق غير شمس البلح التي تواطأت مع الاسمنت ، ليحرقا جسمك ورأسك بحرهما المفرط.
—-
المعجم :
ـ (المخينزة) : من الأعشاب المشهورة في المغرب ، يتم وضعها في قماش مبلل بماء ساخن ، وتحزم به على رأس المريض ، وتستعمل كدواء للحمى.
مراكش 26 سبتمبر 2019