” إنهم يريدون خلق جيل من الضباع”
ذ. محمد جسوس
عو
عوو
عووو
عوووو
بدأت في العواء، وخرجت بدوري إلى ظاهر البلدة، في البدء كانت الأمور عادية جدا، عادية تماما، عادية كسرنمة، مثل ما يحدث في أحيان عديدة، كما في الأفلام مثلا أو في أحلام اليقظة، وتحولت الأحداث إلى ما يشبه الأمر الواقع، ثم بدأ التحول يبسط سلطانه على المدى تدريجيا، كما يحدث عادة خلال الأوبئة والأزمات والكوارث، حينما تبتدئ الأحداث في الانتشار والظواهر بالتفسخ والتحلل، وإذا بالكل يتحولون إلى ذئاب آدمية، ينزحون إلى ضاحية المدينة، يعوون ما شاء لهم، كما أجساد سقيمة تفرمها قاطرة الزمن العنيد بدون أدنى رحمة، يفلق يباس الخشب وتواطؤ الصمت المريب المنبعث من الذاكرة المخترمة بالنسيان، وأرواحهم المختمرة بالحرمان والإحباط، حتى أصبحوا يفكرون في مدى مراهنة البياض على الوقوف في وجه الخسارات، ومدى مقاومة المرايا لفتنة الانكسارات والغواية، في البداية، اقترن الأمر بمد إشاعة رحمتهم في البداية، بزرع الوشاية، بملء الجدران بصور السلالة، بإخفاء مواد ضرورية، باختفاء مواد أساسية، برسم جمجمة تتقاطع على وجهها عظمتان، بإقامة متاريس في الجهات الأربع مائة، بإعلاء سجون، بمحصارة الأهلة، بإخماد الشموس، وباختلاق أزمات أخلاقية مرة، وذات مظاهر سياسية واقتصادية مرات أخرى، وبظهور غرباء، مافتئوا أن يجتاح دخولهم هواءنا كأضغاث أحلام، فانتشروا فيه بجسارة، حتى اكتمل تواجدهم فينا، وأكملوا دبيبهم في تيهنا، يتفرقون في كل الأمكنة، يمدون آذانهم وعيونهم ذات اليمين وذات الشمال، طولا وعرضا وفي كل الاتجاهات والنواصي، يراقبون الحركات، ويتصيدون التحركات، وينقلونها في إضبارات صغيرة بحجم راحة اليد، يسجلون كل شيء في نفس الوقت تماما، الرشفات والهمسات تقريبا، الالتفاتات والابتسامات والتقطيبات والرعشات تقريبا تقريبا، يحصون فقرنا، يحصدون مرارتنا، يحرسون جوعنا، يحرصون على أحزاننا الموجعة، يسممون طحين الحنطة، يطعموننا مرق الأرق وشواء الغيب، ويستمنون على الجارات في أفرشة مخيلاتهم، يستسلمون لدفء الأخيلة وحرارة الدفء المنبعثة من ربلاتهن اللحيمة، يستعينون بسيمياء التورية والمجاز والتأويل على سنين الحرمان، يملكون القدرة على ارتداء ألف وجه في نفس الوقت تقريبا تقريبا، وبقادرين على سماع همس الندى بصبر لحوح، وملاحقة قهقهات الصبية، يخزرون لكل شيء، يجلدوننا بالنظرة، يجادلوننا ويقارعوننا بالحجة، ويدافعون عن خيباتهم كقديسين، ويقسمون بمواقعة أمهاتهم ودين ربهم، وبحق آصرة الحليب المجفف، ليوهموننا بصدق النية كي يوقعوننا في سوء مغبتها، يجيدون بلاغة الجلاد، وبراءة الضحية، يؤدون التحية، ويبتسمون في الوجه حتى بدون سبب، ابتسامة باهتة شاحبة، شحوب باهت يشف عن عروق زرقاء تحت جلود كالحة، ويمضون إلى حيث المجهول، حيث لا أحد يعلم، حيث يقدمون لأسيادهم أكاذيب منمقة ، حيث تستقبلهم نساؤهم بعواطف مزورة ، فيما نقضم وقتنا، نحصي خيباتنا التي تمضي بنا إلى حيث لا ندري، حيث اللاحيث، نفرط سنوات العمر.. ونعيد ترتيب ارتباكات الأيام بثمالة النبيذ الحريف وأغنية “الشاليني”، نرهنه لكنف الأحراش، لليل مقصوص الأخيلة يجرش رؤاه على رحى المستحيل، لترنيمة من رذاذ الرمل، لرفة من سخاء البحار، لفيض الغابات المتكئة على حياد الظلال ولامبالاة الطقس، ولجبال تسندها هشاشة الفراغ، لخرائب يؤنسها نعيب البوم وضباح الثعالب، ننسج أجنحة ومواويل لأحلام الفقراء، نعتق الأفراح لأعوام مقبلة، نريق بولنا على رؤوس السلاطين، قطرة قطرة كتبول البعير، ندلق عليهم ما نضمر لهم من كراهية وحقد دفين، نقتفي عزلة اللقالق إلى حيث يقين العزلة، نلملم سمسم الضياء اليسٌاقط من جدائل الشمس، نرمم تعتعة القناني بكل ما نملك من نفايات عمر مهيض، كنا نشك دوما في أنه ينتمي لفصيلتنا، نراهن دوما على سباق خاسر، عمن منا يسابق ظله، ويصل إلى حتفه الأول، عمن يؤدي رقصة ” السيرتاكي” بحذاقة ألكسيس زوربا، عمن يعلق آماله على لوعة الصدفة، عن أوطان ما زالت تضبط ساعاتها على الوحدة ونص، أوطان تنبجس منها السجون والشرطة والرزايا كالخطايا، أوطان لا يأتيها الخير من بين أيديها ولا من خلفها ولا من أمامها، عما يكنزون لنا من أحقاد وموت وجوع ومن هراوات ومن مرارة، عن نقيع العدس والفوم والكرفس، عن الحروب الساخنة تمرغ قاعها في أسمالنا، عن أحادي أوكسيد الكربون والمازوت ينعش هواء الحدائق، والطرقات الملغومة بكمين الجسر وتيه السيول، عن حشيشة القنب وزهرة الخشخاش تربت على أجداث الدهاقين، عمن يبنون فرحهم على زقزقة اليمام ورفرفة الفراشات، ونجوم تتأرجح في الميزان، عن سر استئمان الحق على بريق الذهب الإبريز، عمن يعلقون عواطفهم على رضا حبيبات ينزعن حبيبات دمهم من فتنة غبطتهن، ويسقطن سحناتهم من وهج اللهفة، عن الوصوليين يهتبلون المناسبة، عمن يعضون على وجعهم بالنواجذ وينضجون نوم أولادهم على ماء القدر، عمن يجلون الحزن العالق في القدور، عمن يستدرجون الجمل إلى قدر، عمن يستدرج الأقدار إلى الصراط…
الصراط غير المستقيم،
صراط الذين
سراط الغريب
سراط الغربات
سراط حيثما وقاب وقوسين وأدنى، والذي، عندما، وبعدما، وكأنما، وربما، وكلما، وإما، وأما، وفيما، ولما، وبينما، ومما، وما في الحسبان ..
حيث لا سراط مستقيما يجس سنابك الصافنات..
لا نمارق ممدودة من حرير ودمقس للمماليك المذهولين الآبقين..
لا لوطن بدون حرية ونصف قبر..
لا للطغاة يستعذبون النهب فينا..
تقول أمي ما شأنك والسياسة يا ولدي..
يقول المناضل الحياة لا تؤخذ إلا عنوة..
يقول الفقيه كل بدعة ضلالة..
يقول المواطن مواطنون نحن لا رعايا..
يقول الشارع إذا الشعب يوما أراد الحياة..
يقول السياسي الحزب محطة لبلوغ الوزارة ..
يقول الوالد كن رجلا ولا تتبع خطواتي ..
يقول القديس ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان ..
يقول الثعلب حينما تسمق الدالية كم أنت حامض أيها العنب..
تقول العرافة في حياتك يا ولدي..
يقول السياف الوقت كالسيف..
يقول الصائغ الوقت من ذهب..
يقول النقابي يا عمال العالم اِتحدوا..
يقول المحامي لا أحد يعذر بجهله للقانون..
يقول الفدائي المجد للكلاشنكوف..
يقول الشاعر يا أمة ضحكت..
يقول الراوي من أين تبتدئ الحكاية..
يقول المرابي المال يولد المال..
يقول الانتهازي من أين تؤكل الكتف..
ويقول صاحبي وهو يشرق بالحسرة نحن من نصنع أصنامنا، نؤلهها ونعبدها ونقع في حبها، وأتذكر بيجماليون، ومايكل أنجلو وهو يجدع أنف المسيح ملاطفا إياه بإزميله مخاطبا إياه: اِنطق يا موسى
وأقول للشهيد شهادته
و للاستشهاد مشاهده
وللشهداء عرسهم الدموي
ونتساءل عن من يستدرجون الأقدار إلى الصراط.. عن من يستدرجون الجمل إلى قدر، عن من يجلون الحزن العالق في القدور، عن من ينضجون نوم أولادهم على ماء القدر ويعضون على وجعهم بالنواجذ، عن الوصوليين يهتبلون المناسبة، عن من يعلقون عواطفهم على رضا حبيبات يسقطن سحناتهم من وهج اللهفة، ينتزعن حبيبات دمهم من فتنة غبطتهن، وعن سر استئمان الحق على بريق الذهب الإبريز، ونجوم تتأرجح في الميزان، عن من يبنون فرحهم على زقزقة اليمام ورفرفة الفراشات، عن حشيشة القنب وزهرة الخشخاش تربت على أجداث الدهاقين، والطرقات الملغومة بكمين الجسر وتيه السيول، عن المازوت وأحادي أوكسيد الكربون ينعش هواء الحدائق، عن الحروب الساخنة تمرغ قاعها في أسمالنا، عن نقيع الكرفس والفوم والعدس والبازلاء، عن ما يكنزون لنا من أحقاد وموت وجوع ومن هراوات ومرارة، وأوطان لا يأتيها الخير من بين أيديها ولا من خلفها ولا من أمامها، أوطان تنبجس منها الرزايا والشرطة والسجون كالخطايا ، أوطان ما تزال تضبط ساعاتها على الوحدة ولص، عمن يؤدون رقصة السيرتاكي بحذاقة ألكسيس زوربا، عمن يعلقون آمالهم على لوعة الصدف، ويصلون إلى حتفهم الأول، عمن يسابقون ظلهم، ويراهنون دوما على سباق خاسر، يرممون تعتعة القناني بكل ما يملكون من نفايات عمر مهيض، يلملمون سمسم الضياء اليسٌاقط من جدائل الشمس، يقتفون عزلة اللقالق إلى حيث يقين العزلة، يدلقون عليهم ما يضمرون لهم من كراهية وحقد دفين، قطرة قطرة كتبول البعير، يريقون بولهم على رؤوس السلاطين، يعتقون الأفراح لأعوام مقبلة، ينسجون أجنحة ومواويل لأحلام الفقراء، وخرائب يؤنسها نعيب البوم، وجبال تسندها هشاشة الفراغ، لفيض الغابات المتكئة على حياد الظلال ولامبالاة الطقس، لترنيمة من رذاذ الرمل، لرفة من سخاء البحار، لليل مقصوص الأخيلة يجرش رؤاه على رحى المستحيل، يرهنونه لكنف الأحراش، ويعيون ترتيب ارتباكات الأيام بأغنية ” الشاليني ” وثمالة النبيذ الحريف، يفرطون سنين العمر، يقضمون وقتنا، ويحصون خيباتهم التي تمضي بهم إلى حيث لا يدرون، حيث لا أحد يعلم، حيث اللاحيث، فيما ظهور الغرباء يجتاح هواءنا، يتفرقون في كل الأمكنة، حتى انتشروا فيها بجسارة، واكتمل تواجدهم تلقائيا فينا، وأكملوا دبيبهم في تيهنا كأضغاث أحلام، يمدون آذانهم وعيونهم طولا وعرضا، وفي كل الاتجاهات، ذات الشمال وذات اليمين، يتصيدون التحركات، ويراقبون الحركات، يلعنون المعنى، يسجلون كل شيء في نفس الوقت تماما، وينقلونها في إضبارات صغيرة بحجم راحة اليد، الرشفات والهمسات تقريبا، الرعشات والتقطيبات والابتسامات والالتفاتات تقريبا تقريبا، يسممون طحين الحنطة، يطعموننا شواء الغيب ومرق الأرق، يحرسون جوعنا، يحصون فقرنا، ويحرصون على أحزاننا الموجعة، يستمنون على الجارات في أفرشة أخيلتهم، يستسلمون لدفء الأخيلة وحرارة الدفء المنبعثة من ربلاتهن اللحيمة، يستعينون بسيمياء التأويل والمجاز والتورية على قهر سنين الحرمان، يملكون القدرة على ارتداء ألف وجه في نفس الوقت، وبقادرين على سماع همس الندى بصبر لحوح، وملاحقة قهقهات الصبية، يجلدوننا بالنظرة، يخزرون لكل شيء، ويقارعونك بالحجة، ويدافعون عن خيباتهم كقديسين، ويقسمون بحق آصرة الحليب المجفف، وبمواقعة أمهاتهم ليوهموننا بصدق النية كي يوقعوننا في سوء مغبتها، يجيدون بلاغة الجلاد، ويفتعلون براءة الضحية، يؤدون التحية ويبتسمون في الوجه حتى بدون سبب، ابتسامة باهتة شاحبة، شحوب باهت يشف عن عروق زرقاء تحت جلد كالح، ويمضون إلى حيث المجهول، حيث لا أحد يعلم، حيث اللاحيث، حيث يفلقنا يباس الخشب، وتواطؤ الصمت المريب المنبعث من الذاكرة المختمرة بالإحباط والحرمان ، وأرواحنا المختمرة بالنسيان، واقترن الأمر باختلاق أزمات اقتصادية وسياسية، وذات مظاهر أخلاقية مرات أخرى، بإخماد الشموس، بمحصارة الأهلة، بإعلاء سجون، بإقامة متاريس في الجهات الأربع مائة، برسم جمجمة تتقاطع على وجهها عظمتان، بإخفاء مواد أساسية، باختفاء مواد ضرورية، بملء الجدران بصور السلالة، بمد إشاعات رحمتهم في البداية، حتى أصبحنا نفكر في مدى مراهنة البياض على الوقوف في وجه الكوارث والخسارات، ومدى مقاومة المرايا لفتنة الغواية، وإذا بالكل ينزحون إلى ضاحية المدينة، يتحولون إلى ذئاب آدمية، يعوون ما شاء لهم، كما أجساد تفرمها قاطرة الزمن العنيد بدون أدنى رحمة، وابتدأت الظواهر بالتحلل والتفسخ، ثم بدأ التحول رويدا رويدا، كما يحدث عادة خلال الأوبئة والأزمات والكوارث، وبدأ التحول يبسط سلطانه على المدى تدريجيا، وتحولت الأحداث إلى ما يشبه الأمر الواقع، كما في أحلام اليقظة أو في الأفلام مثلا، ومثل ما يحدث في أحيان عادية، عادية كسرنمة، عادية تماما، عادية جدا، كانت الأمور في البدء، خرجت بدوري إلى ظاهر البلدة، وبدأت في العواء،
عووووو
عوووو
عووو
عوو
عو
* من مجموعة ( …إلخ)، 2014 – من منشورات رابطة أقلام أحمر