سآتي من الآخر. أنا لا أحب القطط ، ولا أحب الكلاب. ولم يسبق لي أن ربيت أحدهما ، أو تعاملت معه بلطف في صغري.
عندما كنت طفلا رميت الكلاب بالحجارة مثل باقي أطفال الأحياء الشعبية ، وقذفت القطط برجلي كلما مرت من أمامي.
هذا ما أعطى الله ! بلا نفاق ، وبلا زواق!
عندما قرأت خبرا حول بحث برلمانية مغربية عن كلبتها المختفية في ظروف غامضة ، وقفت في منزلة بين المنزلتين.
جانب من نفسي استيقظ فيه الماضي، فاستغرب أن تنشغل برلمانية عن قضايا الناس الذين صوتوا عليها بالبحث عن كلبة!؟
جانب آخر من نفسي، بعد أن لان وتطوّر وتحضّر وتدجّن، برّر ذلك بكون البرلمانية امرأة شابة رقيقة العاطفة مثل قليل من البشر في هذا الكوكب الفسيح، قد تربي قطة أو كلبة، وتتخذها صديقة تداعبها، وتلعب معها، وتعتني بها في زمن جفت فيه العواطف، وقل فيه الأصدقاء.
فجأة لمعت في ذهني صورة (ميسيو بيريز)، الأستاذ الفرنسي الذي درّسني مادة الاجتماعيات بإعدادية عبد المؤمن في بداية السبعينات من القرن الماضي.
في بداية الأسبوع تغيب ثلاثة أيام، ولم نكن نعرف السبب . دخل في اليوم الرابع إلى القسم، وبدا عليه الحزن. لم يُلق علينا تحية الصباح، ولم يفتح الحقيبة، ولم ينهض إلى السبورة، ويكتب تاريخ اليوم، وعنوان الدرس، أو يطلب منا إخراج الدفاتر، وكتب المقررات. جلس واضعا رأسه بين يديه. خلنا في البداية أنه ربما توفي له قريب أو صديق عزيز. خيم الصمت على القسم احتراما لحزن الأستاذ. بعد مدة توجّه إلينا بالخطاب، وشكا لنا ما يُحزنه ، ويشغل باله ، فكاد بعضنا ينفجر من الضحك.
(ميسيو بيريز) ضاع منه كلب من نوع (كانيش). طلبنا منه وصفه لنا، ربما نساعده في العثور عليه . قال بأنه صغير الحجم، أبيض اللون ويحيط برقبته حزام جلدي يخفي خلفه أسم مالكه. قال بأنه يسكن بالقرب من فندق (هوليدايئين) بباب الجديد، وأن الكلب خرج من الفيلا، وتاه عن البيت أو سُرق. وأن أولاده وزوجته لا يكفون عن البكاء. وما يحزّ في نفسه هو أن الكلب سيقضي هذه الأيام التي اختفى فيها بدون طعام، ولا عناية خاصة، وسيتخلّف عن موعد البيطري. وقد ينام مثل أي شخص متشرد على صفحة من الكارطون، أو فوق الأرض مباشرة. ولن يستطيع تحمّل ذلك، وقد يكون الآن مريضا، ومهددا بالموت. سقطت دمعة من عينه ، فسكت عن الكلام.
استغربنا كيف يحزن (ميسيو بيريز)، ويبكي بهذا الشكل على جرو صغير، وتساءلنا هل عاطفة النصارى هشة إلى هذا الحد؟؟ وكيف استطاعوا خوض كل هذه الحروب بقلوب رقيقة مثل قلب (ميسيو بيريز) وأسرته ؟؟ تألمنا لحاله.
من حسن حظي كنت من بين التلاميذ الثلاثة الذين عثروا على الكلب خلال يومين في حي باب تاغزولت. أخفنا والدة الشاب الذي وجدنا الكلب في حوزته بان (ميسيو بيريز) صرح للبوليس بان منزله تعرض للسرقة، وان الأمر خطير جدا، وعلى ابنها أن يسلمنا الكلب، وسنقول لصاحبه بأننا عثرنا عليه في احد الأزقة، ويا دار ما دخلك شر.
عندما رأى (ميسيو بيريز) الكلب، طار من الفرح حتى دمعت عيناه. منذ ذلك الوقت أصبحت من أعز التلاميذ عليه. كان أحيانا يناولني مفتاح سيارته لأجلب له إحدى حاجياته إلى القسم، فكنت اشعر بنوع من الفخر والاعتزاز.
تمنيت أن يساعد الناس الشابة البرلمانية في العثور على كلبتها، حتى تسعد، وتطير من الفرح مثل (ميسيو بيريز)، فتعود إلى عملها بمعنويات عالية، وتهتم بشؤون الساكنة أحسن من السابق.
معذرة ل(ميسيو بيريز)، ومعذرة للبرلمانية الشابة. ليس ذنبي إذا لم أتعلم حب القطط والكلاب، والبكاء عليها إذا اختفت أو سُرقت، لكني تعلمت أن أفرح بحب الأسرة والعائلة والجيران، وإسعاد الناس.
تعلمت أن أحزن، وأشتم هذا العالم من اليمين إلى اليسار، عندما أرى امرأة تسقط منهكة من الجوع والمرض، أو أرى رجلا في نشرة الأخبار يلفظ أنفاسه الأخيرة بين يدي طفلته بفعل رصاصة صوبها جندي مجنون نحو رأسه.
مراكش 04 / 07 / 2022