انتشلت القلم ، وعلى ورقة ناصعة البياض جعلت تخط الحروف التي أشرقت شمسها إلى الوجود بعد مخاض عسير. أمواج هائجة عصفت بفؤادها المسكين ،فأتت على كل ذكرى جميلة نبض بها هذا القلب المتقلب بين المشاعر و الأحاسيس وبين ما يمور به الواقع.
أكتب إليك:
أكتب إليك لأخبرك بما عجزت عن إخباره إياك .
أقول لك إن سفينتي أبحرت دون شراع ، وإن مفاتيح قلبي غُلِّقت، وأُلْقيت في سراديب الأحزان، فصار قلبي جريحا يلفظ أنفاسه كلما أوشك بدر شبابي على الاكتمال.
عشت حياتي مجثتة الجناحين، وأهلي ينتظرون بفارغ الصبر اللحظة -التي سيفتحون فيها ذلك القفص- ليخرجوا تلك الحمامة البيضاء، ويضعوها في قفص جديد .
لم يكن لقاؤنا إلا بداية الفراق، وعيناك كانت تبوحان بما تسره في قلبك.أمضينا لحظات وسمتها في قلبي أداري بها خيباتي وأحزاني.
أذكر لقاءنا الأول، حينما وقفت بجانب الشباك والتمست مني أن أدفع وثائقك بمسلك الشعبة نفسه الذي اخترته في الجامعة.
أذكر يوم جلست بجانبي في أول حصة لنا وأعطيتني قلم حبر بعدما جف قلمي.
أذكر لمَّا الفيتني جالسة وحيدة على المقعد، فسألتني عن موعد الحصة بغية ابتياع محادثة معي.
أذكر أيام مذاكرتنا واستعدادنا للامتحانات ، أذكر حينما كنا ننتظر موقف الباص معا !ونسرح في أحاديثنا غير مبالين بالركاب. ولكم مرة تخلفت عن النزول بمحطتك ، لتسترق النظارات إلي وأنا نازلة من الباص.
أتذكر أول هدية قدمتها لي في عيد ميلادي، أتذكر أول موعد لنا في المقهى ، أتذكر أتذكر أتذكر كل لحظة ممزوجة بأحاسيس التقطتها عيناي.
أكتب إليك لأخبرك أن بعد شهر سيبحر مركبي .أكره الوداع مذ كنت صبية صغيرة أقضي عطلتي الصيفية ببيت جدتي ، وحينما يحين موعد العود أبكي لأنني كنت أظن أن الوداع شكل من أشكال الموت ، وأن من نودعهم لا نراهم ثانية.
أودعك بهذه الرسالة التي ستصلك ،وإذ ذاك عدني أن تطلق سراح كل طير تصادفه، وهب له بسمة، قد تبعث فيه أملا بالبقاء أروى.
طوى رسالته ، ووضعها بجيب بدلته، ضم أنامل ابنته الصغيرة أروى التي بعث روحها الطاهرة في شخصها وبراءتها . اعتادت أن تأتي معه كل أسبوع لعيادتها في روضتها والترحم عليها .
سألته وهما رائحان من المقبرة
– لماذا تأتي إلى المقبرة ؟
– وقبر من هذا ؟
بابتسامة واطمئنان أجاب ابنته:
– فتاة جميلة ، جميلة الروح للحد الذي جعل الأرض عاجزة عن حملها ، فخبأتها بداخلها.