رجعت من ساحة المدينة بخيبة أمل مضاعفة . كل شيء يسير في المكان الذي أسكنه نحو الهاوية . الناس فقدوا القوة للصمود أكثر في وجه الواقع البائس ، والزمن القاسي جدا الذي لا يرحم الصغير ولا الكبير . لقد أصبح يسحق الجميع ويمضي بسرعة . صار زمننا خائنا لأناسه ، إنه يسير بسرعة جنونية ، ولا يترك أي فرصة لأحد ، ليصلح الأخطاء ، أو ليغير الطريق . إنه يمضي ولا يهمه الذين يمضون معه ، ولا الذين لم يتحركوا بعد . يبدوا أن الحياة لم تعد كما كانت في السابق ، تجعل الناس يعيشون في هناء وراحة بال . بل أصبحت الحياة تسحق الجميع ، وتعذبهم . ربما هذه رسالة واضحة منها للذين أتوا للوجود ، كي يتعظوا ، لعلهن لن يأتوا بأطفال آخرين ، ليعيشوا عذابا مضاعفا .
جلست في مقهى عتيق في هامش المدينة ؛ منذ أن التحقت بالمدينة ، أعرف المقهى يملأه الرواد الذين يئسوا من العيش الذي ما هم عليه ، يدخنون الحشيش ، وكل ما يخدر ، ثم يفكرون في البحث عن مخرج ، لعل حياتهم تتغير إلى الأحسن .
سمعت الناس يقولون أن صديقي جواد يود الهجرة . وحيتما أن التحق بي للمقهى ، جلس ، ثم سألته قائلا :
-لماذا تريد أن تهاجر ؟
أشعل سجارة ، ثم رشف من قهوتي ، ثم أجابني ساخرا :
-لا أريد أن أهاجر لتتحسن حياتي ، بل أود أن أهاجر كي لا تزداد سوءا
نهضت ، ثم تركته ، أخرجت نقودا مو جيب سروالي لأدفع ثمن قهوتي . أبى النادل أن أدفع الثمن ، ثم سألني باسما :
-هل أوضاعنا في هذه المدينة ستتحسن أم أن بؤسنا سيزداد ؟
أجبته باستهزاء :
-هل تضحك علي ! ، سؤالك إطرحه على من يمارس السياسة ، وعلى الأساتذة ، أو على الذين يفهمون في كل شيء .
دفعني بقوة ، ثم ضحك ، وذهب ليوزع القهوة والشاي على الجالسين . ضحكت كثيرا ، وحينما رآني أضحك ، ضحك بدوره ، ثم قال لي من بعيد :
-إننا على وشك أن نصبح حمقى يا كريم
غادرت المقهى ، وسرت في الطريق . ظللت أمشي بدون أن أحدد وجهتي . أحسست أني ضائع في مدينتي . واكبت سيري قليلا ، وبعد ذلك بقليل ، قررت أن أعود للغرفة كي أنام ، وإذا لم أنم فسأختبئ من مرارة ما يوجد في الخارج .
وصلت للحي الذي أسكنه . بدت لي فتاة في سن العشرينات واقفة وتحدق في شيء ما بتأمل وغرابة . ظننت أنها تشاهد معركة ما بين الجيران ،أو شيء ما يخصها . مشيت ببطء ، وحينما وصلت للمكان الذي تقف به ، وزعت نظراتي على المكان الذي تنظر إليه . رأيت شيخا هرما ، جالسا قدام باب منزل لا أعرف صاحبه يأكل . بدا لي الرجل غريبا عن المدينة ، وبدون شك ، ليس من الذين يقطنون فيها ، وبعد فترة قصيرة خرج من المنزل طفل صغير ، وهو يحمل كأس قهوة ومده للشيخ .
قبل أن أمضي لسكني ، قالت لي الفتاة التي كانت تراقب ما المشهد منذ البداية قائلة :
-الحياة غريبة ، الناس يأتون لهذه المدينة ، وسكانها يهاجرونها