من الرحم البايولوجي إلى المدينة الرحم الأسمنتي الموازي، من دفء جلالة الأم إلى وضاعة الواقع. رحم بديل هي الشوارع تضمنا أجنة في البدايات الخجولة ثم ننمو وننمو عن كائنات بلا حدود. مصفوفات غير منتهية التوقعات. حيا من تحمل شفرتها الحضارية وتمررها الى بويضات في المدينة الرحم الجديد المضيف أو القاتل المدينة ذات الأحشاء السرية المعقدة والمعرجة، تهضم وتقيء وتخرج ما تلتهم من بشر، تعيد تشكيل كائنات مسحوقة ومندسة في مجاريها الأسنة ترفعهم إلى باحات الأبهة والنفوذ والزهو أو تذبلها كنجوم مسحوقة لا ترى في ليل بغداد العباسي الأزلي والهائل.
الأزقة القديمة ” العقود ” والتي تزاور الشمس عنها بفعل عبقرية المعماري البغدادي الوارث لخبرات بلاد الرافدين الهندسية. حيث مزج الفني بالوظيفي لتبقي الأماكن باردة نِسْبيًّا في صيف عراقي لا يرحم.
الرفيق رمل.
اسمه بالسجل المدني “رميل صلبوخ شلاكة”. عدل لَاحِقًا هذا التصغير اللفظي“ رميل ”إلى“ رمل“. ينحدر بأصوله من الجنوب، قيل إنه هارب من ثأر بعد هتك عرض بنت عمه. تكيف كجرذ منبوذ في الشوارع الخلفية منذ أتى بغداد في أوائل الستينيات في البدء كان يفترش أقواس فضاءات الجسر كمهجع كل ليلة مع القوارض والبعوض . أما اليوم فيصر على حجز طابقا بأكمله في فنادق الخمسة نجوم في مدن إسطنبول، بيروت أو دبي المنورة.
فهم رمل اللعبة سريعاً منذ أن وصل. في بغداد الاستقطاب السياسي لا يكفي أن تعيش بسلام بلا حليف أو عدو. بلا حزب أو أيدولوجية.” بغداد لعبة قمار مفتوح للجميع “. عليك أن تحدد الرقم وترمي نردك ولن تخسر، الخاسر لا يخسر ,وقد تربح كل شيء برمية واحدة.” إذا تخاف ما تعيش وإذا تعيش لا تخاف “. يردد دائما مع نفسه. يعي أن زمنه قادم وأنه سوف ينال احترام الرفاق في الدولة السرية الجنينية والتي تنمو لاحقا” بعثية “خالصة وسينمو معها.
حدد رمل خياراته. صار عينا للحرس القومي وكثيرا ما قادت وشايته الشباب اليساريين للإعدام، كانت النسوة ترشقه بالبصاق كما رأينه” بحظك وبختك يا كلب يا نذل، تفووو عليك “لم يكن يهتم لذلك. يرد وهو يلعق البصاق” ماء ورد منكن، مشكورات خواتي ”
في تلك الأزقة الملتوية كالمصارين المتصارعة ورغم الفجوة المعرفية بين الآباء التقليديين والأبناء التقدميين برزت شخصيات حرة تنويرية وقيادية في النسيج العراقي. كانت الشيوعية العراقية المستنسخة من التجربة السوفيتية قد تفشت لفترة طويلة في تلك البيئات الفقيرة معرفيا وماديا. اندفعت أفقيا وكان يكفي أن تتأبط كتابا وترتدي نظارة لتعامل كشيوعي نموذجي . أو هكذا كان يعتقد الخصم الأعنف الجناح القومي العروبي. كل هذا حصل في الزمن الورقي ووسائل التواصل السلكية، كان وجود هاتف عمومي في المدينة يعد ترف اجتماعي، المقهى كذلك أسس مكانيا روابط تقترب من ( للسوشيل ميديا) الآن، بفارق أن المقهى كان للرجال والبالغين فقط، الآن فيمكنك التواصل حتى لو كنت في الرابعة من عمرك وفي أي مكان حتى لو كنت في دورة المياه، انتهى الشرط العمري والمكاني للبلوغ. لم يطلب القوميون من رمل أن يكون مثقفاً أو مؤدلجا حتى، فهم وأفهموه صيغة التخادم هذه.” أريدك عين وأذن وذراع لإخوتك بالحزب والنضال، رفيقنا “قال له الرفيق” صدام التكريتي “مرة في اجتماع حزبي.
“قادسية صدام ”
في الثمانينيات في زمن البيرية (غطاء الرأس العسكري العراقي) والزيتوني (الملابس العسكرية) لا أحد يعرف كيف أعفي رملا من السوق إلى الجبهة، بينما تساق أفواج” الزلم “كالقطعان إلى محرقة الحدود العراقية الإيرانية في حرب القادسية (عراقيا)،” دفاع مقدس “إيرانيا. تشبث رمل الذي أصبح عضو فرقة حزبية بموقعة واعتمد على عاهة قديمة في ساقه طورها لتكون عوق يعفيه من الذهاب إلى الجبهة. تجاريا بدأ بالنمو المطرد، أصبح يملك منزلا خاصا، لم يتزوج، يقال إنه اكتفى بالكاولية (الغجريات) كمورد إشباع جنسي.
وبينما الحرب تلتهم الرجال. صار الرفيق” رمل “مقاول. استغل العمالة المصرية المليونية في العراق، شغلهم بأقل أجور. حتى أنه كان يقلهم إلى البناء بسيارة الفرقة الحزبية (بيك آب )… ومع هذا، أخلص رمل لهوايته المفضلة، كتابة التقارير الحزبية واصطياد الفارين من الخدمة العسكرية الذين سيعدمون لاحقا بحفلات علنية تختم عادة ببث اغاني كبار المغنيين العراقيين وهم يتغنون بحب القائد، مرة أشاع الرفيق رمل بين الناس أن الرئيس ( القايد ) بنفسه وبصوته السوبرانو المميز لأهل الشرق والغرب، قال لأمين سر فرقته (الحصاد الأكبر): سلمولي على رفيق رمل، كولولو عفية. ها ها… ها… ها…
“عاد الفرع إلى الأصل”
طل صباح الثاني من أغسطس ندياً على ربوع الكويت “الديرة”، سواحلها وأبراجها الثلاث الزرق الشامخة. كان “الشيخ” يغط في نوم العافية والديوان الأميري يستعد ليوم روتيني بينما “ماما أنيسة” تحكي للأطفال عبر الراديو.
مليون بسطال عراقي تدوس الان تراب الكويت. سيل من الخوذ والبيريات والكاكي والمرقط والزيتوني من الملابس تتغلغل في جسد الكويت. سيل من الشوارب الصدامية تبتسم بشماتة في محيط القصر الأميري سيل من الأسلحة والذخيرة يتدفق إلى الداخل بينما سيل من سيارات النقل تغادربما ثقل وخف من ركام دولة هشة تذوب كورق الحمامات بثوان.
نقل الرفيق رمل إلى فرع كاظمة لحزب البعث العربي الاشتراكي في محافظة الكويت العراقية. شارك في تفكيك ونقل مرسلات الاتصالات الحديثة والحساسة من محطة “أم العيش” الكويتية “إلى بغداد. تزامن ذلك بنقل بضائع نصف متاجر سوق شرق إلى جهة خاصة تشارك معها الغنيمة.
شوهد في أخبار المساء وهو يكرم من الكادر المتقدم للحزب وشواربه تتراقص. كان تدور أهزوجة الرئيس المفضلة” ها خوتي ها .. يا محلى النصر بعون الله “.
لكن حاسة الضبع استشعرت أن عاصفة الصحراء قادمة وأنها ستبلع البشر والحجر وستشوي مليون جندي عراقي في حفلة باربيكيو مصورة بثتها الــ CNN على الهواء… قبل بدء بأيام الهجوم الأمريكي، دخل الرفيق رمل المستشفى التعليمي في البصرة لإجراء عملية المصران الأعور متعمداً؟؟ بعدها تموه بملابس مدينة واختفى في البصرة بين نخيلها وناسها وخوفها من القادم .
.” بالثوار هلا هلا ونريد رأسا أبو حلا ”
في 1991 ومع انتفاضة آذار ضد الحكومة العراقية. انقطعت أخبار الرفيق رمل. قيل إنه أعلن توبته عن” البعث “وجرائمه وارتدى عصابة خضراء (علگ) رمز الانتفاضة الشيعية. قيل إنه شارك باقتحام البنك المركزي وسرق سبائك ذهبية، وأنه وأنه. تنتهي الانتفاضة بالسحق العسكري المفرط، تحترق المدن ليخرج رمل من بين الأنقاض ك” بازوزو “إله الشر السومري. كمناضل بعثي أصيل ويبدأ بالوشاية بالجميع كالعادة.
“ بوش بوش أسمع زين، كلنا نحب صدام حسين”
في حصار دولي قاتل صارت المدينة تتضور من الجوع عدى الميسورين من التجار ورجال الدولة.
النفط مقابل الغذاء حسب برنامج الUN، النوافذ والأبواب تباع لسد رمق الجوع اليومي، الجنود يلتحقون بأحذية مستهلكة وفردتين بقياسين مختلفين في بعض الأحيان، النقود تطبع محليًا. كورق جرائد، حبرا وورق ا بلا غطاء من الذهب ولا من العملات الصعبة ولا السهلة حتى، الناس تأكل القمامة، وتبيع لحمها علناً، الطحين مقابل الشرف كيلو لحم بقر تحصل على خمسين كيلو بشري للجنس والاستمتاع. لأنه يتاجر بالطحين، كان قد سرقه من مخازن وزارة التجارة ومن” سايلو الحبوب”. ينمو رمل عمودياً وأفقياً. وجاهة اجتماعية ثراء ونفوذ مضاعف. وينجو من عقوبة صارمة بفضل سهرات ليلية مع أحد أقرباء الرئيس.
“ أم المعارك، وأخواتها ”
في نيسان 2003، وبينما السيد الرئيس القائد المجاهد يخاطب الجماهير من الراديو” أطلق لها السيف وليشهد لها زحل “كان الأمريكان يتبولون في دجلة لأول مرة منذ الخليقة، تحت سماء ملبدة بالأباتشي والستريلا وكل أنواع المقذوفات. المدينة في فترة نقاهة من حكم مزمن أغلق بوابات العالم والزمن عليها. خرجت من نوم قسري إلى نهار وحشي وفوضى تسارع الأحداث. لن يصدق رمل أن البعث غادر للأبد وان لا رجال بملابس زيتونية ولا جداريات الرئيس ولابرنوه حتى جزء من معادلة الأيام الجديدة. الزمن دولاب وأعداء الأمس سيحكمون المدينة أصالة ووكالة. المدينة لاترحم ولن ترحم. مدنيين قتلة وميليشيات قتلة وحتى الأطفال أصبحوا قتلة، مفخخات واغتيالات وحروب أهلية محلية وسياسة ودين وتحزب وهويات مشتتة، موت سريري لمدينة هرمة. أصبح رملا بلا غطاء أمني والكثير من الدماء التي تسبب بسفكها تسير خلفه وتطارده في الشوارع ولا قبيلته ولا حتى الفاتنة القاتلة ” كوندليزا بنت رايس” بعظمتها قادرة على حمايته الآن لو قرر الولاء لرجالها من أخوة مونيكا الأمريكان. نجا من الاختطاف مرة، ومرات، وغادر بعدها إلى دمشق حيث رائحة البعث والرفاق هناك لازالت عبقة.
“ المساءلة والعدالة”
عندما فشل الحلم الإمرة عراقي في نشر الديمقراطية من الفاو حتى فيش خابور.
عمل الأمريكان على استقطاب أعداء الماضي وحشرهم في حظيرة الدولة العراقية الهزيلة. فكر الجنرال بترايوس أن هذا يخفف العداء والخسائر من مؤيدي الزمن القديم وبالتالي تخف مقاومتهم وينصهر بالمشروع الديمقراطي. بإعطاء النفوذ والمال. والمال سيد الرجال.
في مصالحات حكومية نفعية، مصدرها الأمريكان لتقليل الخسائر وإنهاء التمرد. سيعود الرفيق رمل إلى المدينة كسياسي محسوب على الفريق الآخر الذي فقد الصدارة في” دوري حكم العراق ““ راح نلعب بالوقت الضائع، المهم نلعب بيهم” طوبة “. سيشكل حزبا سياسيا أسماه حزب” العراقيون الأماجد “. حزب ومقاولات ومصفحات. يدعى إلى المنطقة الخضراء، يسير موكب رمل بحمايات عسكرية، المال والنفوذ مجدداً يطفئ ديون الماضي من الدم، المدينة بذاكرة سمكة. ومن يتذكر جيداً يثقب في ذاكرته بمسدس كاتم.