يُروى والله أعلم، أن شحاذا أعمى كان يسكن ب (فَندق) في المدينة القديمة خاص بمبيت العربات والحمير التي تجرها. استيقظ كالعادة مع آذان الفجر. مسح وجهه بقليل من الماء، ومرر يديه المبللتين على شعر رأسه، ثم تحسّس جلبابه وطاقيته ولبسهما، ووضع رجليه في النعل، وتلمّس عصاه. وقف أمام الغرفة، أرهف السمع لحظة، ثم أقفل الباب، ووضع المفتاح في جيبه.
سار بضع خطوات، فحص الباب الخشبي الكبير (للفندق) بالعصا، فوجده لا زال مغلقا. تحرك يمينا، وتحسّس الجدار بيده الناعمة، ليتجنب الاصطدام بعربة أو حمار. نادى على البواب، فلم يتلقّ جوابا. اكتشف ثُقبا في الحائط. أرخى أذنيه الطويلتين، فسمع حركة الناس في الزقاق. منذ أن فقد بصره، واحترف التسول، وهو يعتقد بأن الله سبحانه، يُفرّق الأرزاق ابتداء من طلوع الفجر. ومن يتأخّر عن النهوض إلى عمله، فقد أضاع على نفسه نصيحة الأجداد: (الفياق بكري بالذهب مشري)*. وبالتجربة لاحظ بأن قلوب الناس ترِقُّ وتلينُ في الصباح الباكر، وتتقرّب إلى الله بالصلاة والصدقة، ليُيسّر لها في رزق يومها.
أخرجَ يده من الثّقب، وشرع في ترديد لازمته الصباحية:
ـ يا من يتصدق على هذا المسكين بثمن وجبة فطور لوجه الله.
تصادف النداء مع عودة رجل مخمور إلى بيته في هذا الوقت بالذات. التفت السِكّير يمينا وشمالا، فلم ير أحدا. داخله الشك، وانتابه الخوف، وظن أن الصوت قد يكون صادرا عن جِنّي لا يظهر للعيان. لكن الصوت يشبه صوت الإنسان، وهو قادم من جهة (الفندق). فجأة تراءت له يد خارجة من الجدار، فتملّكَه مزيد من الرعب حتى كاد يُذهِب السُّكرَ من رأسه. اقترب من الجدار، ومسح جفنيه، وفتح عينيه جيدا. لمس اليد الممدودة، ولما وجدها حقيقية وساخنة، أمسك قبضته عليها. حاول الشحاذ سحب يده، فلم يفلح في ذلك. تأكد السكير بأن وراء الجدار شخصا مثله من لحم ودم. فتح حزامه الجلدي بيده اليُسرى، وبدأ يجلد اليد التي خرجت من الجدار، والشحاذ يصرخ، ويتوسل أن يتركه يسحب يده، والسكير يرد عليه بعد أن تخلص من خوفه:
ـ أرعبتني يا (ولد الحرام) حتى كاد السكر يطير من رأسي! نمنا نحن؟! حتى تستيقظ أنت، وتستجدي من يتصدق عليك بوجبة فطور!؟
المعجم :
ـ (الفندق)* : فضاء واسع كان فناؤه يخصص لمبيت الدواب . توجد به غرف للسكن ودكاكين يشتغل بها بعض الصناع .
ـ (الفياق بكريبالذهب مشري)*: مثل شعبي يرى أن الاستيقاظ باكرا يُشترى بالذهب.
مراكش 03 أبريل 2021