“دخلت قلبي لأرى كيف هو، شيئا ما جعلني أسمع كل العالم يبكي”*
“ابق في بيتك” النصيحة العابرة للقارات، الدواء الوحيد الذي يخافه وحش الفيروسات. عداد الإصابات يدور بسرعة مجنونة. جائحة خطيرة تحمل معها الكثير من الوساوس. الاحتياطات متنوعة وصعبة في التطبيق. آخرها جاء من زوجتك التي طلبت منك نزع حذائك، وتركه أمام باب الشقة، لأن مولانا كورونا يمكن أن يستغله، ويدخل إلى الممر والمطبخ والمرحاض والغرف من تحت أقدامك دون أن تشعر بذلك.
قبل خروجك تذكرك بألّا تنسى أيضا وضع قارورة التعقيم في جيبك. مع كورونا يجب أن تحسب كل خطوة تخطوها بدقة. تفتح الباب، وتغلقه دون لمس المقبض، وإذا نسيت ذلك، لا تلمس أي شيء داخل البيت، قبل أن تنظف يديك بالصابون، كما نصحت بذلك وزارة الصحة.
تُخرج منديلا ورقيا، تغطي به أصابعك، وتضغط على زر الكهرباء. تحتفظ بالمنديل، وتنزل السلم. تفتح به الباب الخارجي، تنتهي صلاحية المنديل. تتخلص منه في سلة مخصصة للقُمامة في الخارج. لا تستطيع أن تعيده إلى جيبك، أو تحتفظ به حتى تعود. ومن قال لك بأنه لم يُصبح ملوثا. مع كورونا يجب أن تحتاط من ظلك.
ذهبت إلى دكان البقال القريب من البيت. لاحظت بأنه وضع حاجزا يمنع الزبائن من الدخول. ويدعوهم لترك مسافة معقولة بينهم. إذا جاء دورك عليك أن تطلب ما تريد من بعيد. عندما سألته عن حاله مع فيروس كورونا، طمأنك بأن كل المواد في الدكان معقمة. بعد تهييئ ما طلبت منه، سألك كم ستقدم له من النقود ليأتي لك بحاجياتك مصحوبة بالصرف. سألت نفسك لماذا لا يعقم أغلب التجار النقود؟ كورونا يعمل مثل شيطان. لذلك يجب أن يلعنها الناس في كل القارات مثلما يلعنون الشيطان في المساجد والكنائس. قد تنتقل عبر ورقة أو قطعة نقدية معدنية؟. بررت ذلك بأن المال زينة الحياة الدنيا. يموت الناس من أجله حتى ولو كان ملوثا بدماء كورونا. ولكن إذا خنقهم كورونا فهل سينفعهم المال بعد ذلك؟
والآن اقتنيت ما تحتاجه، إذن يجب أن تحترم الالتزام الذي وقعته في وثيقة الخروج. أنت مواطن على درجة معينة من الوعي، لن تخرج إلا إذا كان وراء ذلك غرض مهم. والغرض المهم انتهى، ولم يعد هناك مبرر لبقائك في الخارج.
وقفت أمام الباب تبحث عن المفتاح، وقبل ذلك أخرجت منديلا ورقيا جديدا. تذكرت أنه منذ أسبوع تقريبا لم يضغط أحد على الجرس. مولانا كورونا منع الزيارات. فتحت الباب وتجنبت استعمال يدك لإغلاقه، فدفعته برجلك. ضغطت على زر الكهرباء. صعدت السلم. فتحت باب الشقة بمرفقك. نزعت حذاءك، ولبست نعلا موضوعا في الداخل بالقرب منه. وضعت المقتنيات في المطبخ. ورميت المنديل الورقي في كيس القمامة، وانصرفت لغسل يديك. يجب ألا تغفل على أن عملية التنظيف لا تقل عن عشرين ثانية.
الآن أمامك اليوم بكامله داخل البيت. ليس لديك مشكل مع العزلة. بقرية بومالن دادس في ذلك الجزء المنسي من الجنوب المغربي في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، كنت تقضي أياما وليال وحيدا بدون كهرباء، وبدون تلفزيون. لم يكن هناك هاتف ولا أنترنيت. وفي ليالي الشتاء لا يؤنسك سوى عصف الرياح الذي يشبه عواء الذئاب.
من بعد أحببت العزلة لوقت فصير، تفكر وحدك فيما مضى، وفيما سيأتي.
هذه المرة لست أنت من يطلب العزلة. مولانا كورونا هو من يفرض العزلة عليك، وعلى الناس في العديد من بقاع العالم، وأغلبهم مثلك يتبرم من ذلك.
وأنت تهرب من كوابيس مولانا كورونا، تفتح دفترا قديما لتمضية الوقت، فتنفض الغبار عن بشار بن برد، وهو يلقي بيته الذائع الصيت:
يا قوم إن أذني لبعض الحي عاشقة **** والأذن تعشق قبل العين أحيانا
فتقول لنفسك بشار شيطان أعمى، رقيق الإحساس، لكنه يملك بصيرة أدرك بها منذ زمن بعيد الفرق بين جمال الصوت، وهز الأرداف. لا تعتقد أن الشيخة (طراكس) لو سمعت هذا البيت ستفهم معناه، وتتراجع عن تفضيل نوع الخدمة التي تقدمها للناس على نوع الخدمة التي يمكن أن تقدمها طبيبة في زمن مولانا كورونا.
(طراكس) لا تعلم أن مولانا كورونا لا يمزح، ولا يحب لأحد أن يستمر في الحياة. وأن الحياة ما بعد رحيلها، لن تعود إلى الوراء. بون شاسع بين من لا تعرف غير هز ردفها، وبين من تضحي بحياتها، وتملك من التجربة والخبرة ما يؤهلها لإنقاذ حياة الآخرين.
بعد ذلك، سرح بك الخيال بعيدا. رأيت فيما يرى الصاحي (الباصات) متوقفة، وخاوية على عروشها. الأطفال انقطعوا عن الدراسة، والعمال يتألمون داخل بيوتهم، أو في ورشاتهم. هذا أصبح بلا شغل، وذاك يخاف الذهاب إليه! رأيت كذلك فتاة تشتكي بأنها تحترق شوقا لصديقها، لكنها لا تستطيع الخروج لرؤيته. المقاهي والمطاعم والمسارح مغلقة، والشوارع مهجورة. رأيت الحياة في المدينة تحتضر بالتقسيط.
ثم رأيت وحشا بلا وجه، يطارد ملايين البشر. قد يصطاد الفتاة والعامل إذا خرجا، أو يصطاد غيرهما، فيجد الطريد نفسه ملقى به في أحد المستشفيات. ممنوع من زيارة الأهل والأصدقاء. ممنوع من العودة إلى البيت في المساء. قد يزوره أطباء يرتدون بدلات واقية تشبه بدلات رواد الفضاء. يتحدثون معه لحظة قصيرة، ومن بعيد، ثم يختفون. عندما يقتحم مولانا كورونا جسما يُشعل النار بداخله حتى يُنهكه، فيُحدث صداعا في الرأس، ثم يقف في الحنجرة ليخنق أنفاسه، ويبحث وسط السعال عن طريق إلى الرئتين لتدميرهما. إما أن يتوفر المريض على جهاز مناعة يقف في وجه مولانا كورونا، ويحول دون مراده ، أو يختنق حتى يُغمى عليه، تتمزق الرئتان، فيحتاج إلى جهاز تنفس اصطناعي. ينام بين العديد من مرضى نصف أموات مكدسين على يمينه وشماله، ولا يشعر بما يجري حوله. وإذا كان في دولة متقدمة مثل إيطاليا أو اسبانيا، وقد تجاوز الخامسة والستين، ويعاني من أمراض مزمنة، قد يحرمونه من التنفس، وبعد مدة قصيرة يلفظ أنفاسه. وتأتي عربة تحمله إلى محرقة المدينة، ولن يحظى أهله بالبكاء عليه، أو بدفنه. مولانا كورونا شيطان في صورة وحش، يلبس طاقية الإخفاء، ويحمل قلبا من الحديد البارد. يُحرم ضحاياه من وداع الأحبة، أو أن يكون لهم قبر كباقي الناس.
قلت مع نفسك لا يمكن أن يكون الله سبحانه قاسيا إلى هذه الدرجة، حتى يسلط على عباده وحشا مجنونا، ولصا لا يُرى بالعين مثل مولانا كورونا، يسرق أرواحهم بهذه الطريقة البشعة.
الكثير من الناس يعيشون في هذا العالم حياة تشبه جهنم، ويستحقون الذهاب إلى الجنة بعد الرحيل الأخير.
أغلبهم على الأقل يستحق أن يموت كما مات الناس من قبل. يستحق أن يبكي عليه أهله وأصدقاؤه، ويكون له قبر، يأتي إليه أحبابه بين الفينة والأخرى، يتصدقون على من يسألهم في الطريق. يرشونه بماء الزهر، قد يتحدثون إليه بهمس، ويترحمون عليه، ويدعون له بالمغفرة والرضوان.تستيقظ من الكابوس على خبر طائرة ثانية قادمة من الصين محملة بالآليات الطبية من أجهزة الفحص، والأسرة المجهزة بالإنعاش، والكمامات.
الهامش:
*جلال الدين الرومي
ـ الطراكس : لقب أطلق على راقصة شعبية مشهورة بهزالارداف.
مراكش 27 مارس 2020