“الله أكبر ، لا إله إلا الله والشهيد حبيب الله”. هتافات صادحة تنطلق من حناجر الآلاف في الطريق إلى مقبرة الشهداء، يغمرني الخشوع وتجتاح القشعريرة بدني وأتماهى في ذاك الموكب الجنائزي المهيب، وأنسلخ من جسدي وأصير طيفًا يطوف فوق مسيرة الزفاف السماوي، تتشكل غيوم كثيفة ذات بياض ناصع، وفي وسط هذا البياض تتشكل بقعة صفراء وتصير قبة، وحولها تكوينات حجرية على هيئة قباب وعقود. تستحيل التكبيرات والتهليلات إلى زئير وصهيل وأزيز حول القبة الصفراء وفي ثنايا الأبنية الحجرية المهيبة. زغاريد حادّة تنطلق من زقاق قديم، وكائنات ملائكية وحمائم ولبؤات تكتظ في الأزقة وعلى الشبابيك والأسطح، وثمة مخلوق نصفه الأمامي وطواط والآخر أفعى يطوف ويسبح في غبش بين بياض الغيوم.
الغيوم تضطرب وتتلوّن وتتراكض إلى جهة ما وكأنها مندفعة إلى حرب. نعم هنا معركة تدور في الأنحاء وفي السماء وفي الأفق، والأصوات تختلط ولا أعي شيئا مما يجري حولي. ينهمر المطر ويتناثر الخلق في تجمعات طولية على الجانبين، الرعد يقصف والبروق تلمع في الأجواء، وأنا كتلة مائية أسير في نهر يجري على مسافة طولية سوداء، والدفء يغمر هذا النهر الجاري، وثمة آخرون يسيرون أمامي يتحولون إلى كتل مائية مثلي تماما، وبعضهم يذوب ويتلاشى في الماء.
تختلط الأصوات والألوان، وزغاريد الملائكة تنطلق من الأزقة، تلمع برقة فيشتعل ذيل الأفعى، وتقصف رعدة فيزعق الوطواط. ذاك المخلوق المشتعل نصفه الخلفي غاضب ومرتعب، يحدّق في وجهي، يتفحصني ويكمل طوافه، يقذف ذَرَقَه فيصيب ثلاثة ملائكة صغارا كانوا على الأطراف، وأنا أغدو قريبا منهم، أراهم يتمددون وهم يحملون أشياء وردية، وعلى ظهورهم تلتصق حقائب منفوخة كالبالونات، أحدهم ملاك أنثى، ثم يغيب المخلوق البشع المشتعل نصفه الخلفي في الأفق، يولول ويزعق ويعربد. وأسمع نداءات صادحة تنطلق من المآذن والقباب: “شهداء… أقمار…. الجنة…. الخلود…”. وعلى مقربة مني يضرب شيخ وقور على الدفّ، وينشد:
-” إذا اقتحم المسجدَ الأعداء، فلا تخافي يا صغيرة، اقرئي سورة الإسراء، واذهبي إلى المقبرة، فهناك الشهداء، يحرسون مدينة الأنبياء”.
يؤزني سؤال يتكرر في ذاتي التي لا أعيها:
-“ما الذي يجري؟ أين أنا؟. فأسمع:
-“ولا تقولوا لمن يُقتَل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون”.
المكان دافئ له جلال ورهبة طاغية، الخلق كثير والمطر غزير، أسراب من طيور ملونة تأتي من بعيد في السماء وتحطّ في المكان. في طغيان الخشوع والسكون أسمع صوتا يخرج من الأرض:
– “جاءكم حارس جديد للمدينة”. فيجيبه طير أبيض:
-“سيتبعه ثلاثة حرّاس آخرين، هم عصافير صغيرة. اعتنوا بهم جيدا”.
تتجمع لبؤات وحمائم في ساحة واسعة، يغشى الساحة هديل وزمجرة، تغمض لبؤة عينيها ويصدر منها هديل، تتجمّع حولها لبؤات ويغادرن بها إلى الزقاق، وأرى بأمّ عيني قلبها يخرج من جوفها ويتدحرج عبر النهر الجاري إلى حيث نتواجد مع الطيور السماوية في حرم المقرّ المركزي للحرّاس. وأسأل:
” الأسود تهدل؟”. تتلفظ حمامة بكلام لا أستوعب كثيرا منه، لكن أعي أنها تقول:
-“نزمجر للميلاد ونهدل حين الموت، لا تقلق سوف تزمجر اللبؤة قريبا”.
عبْرَ الزقاق الضيق ذاته وأنا أسير وحدي أحاول أن أفهم كل شيء جرى خلال ذلك الموكب الجنائزي المقدّس، متتبعا كل المشاهد والتفاصيل التي عاينتُها، سمعتُ امرأة تتساءل وتجيب عبر الهاتف وبصوت مزمجر:
-“توائم؟ ولدين وبنّوتة؟ الحمد لله الحمد لله ع سلامتها أم الأسد”. فصرخت أنا بلا وعي:
-” الله أكبر ، لا إله إلا الله والشهيد حبيب الله… باب الأقصى من حديد ما بفتحه إلا الشهيد”