لتقل ابنة عمّي عنّي ما تشاء، إن هي إلاّ وجهة نظر، وما تسمّيه جبنا أسميّه حيطة وحذرا. أنا أقدم منها في هذا المكان، فأنا جزء منه، ارتباطي به أوثق من ارتباط جنين بمشيمته، ومعرفتي بكل شبر فيه يجعلني أطير كنسمة هواء مغمضة العينين دون أن أصطدم بشيء.
قلت لها، وأنا أتعرّق من شدّة خوفي:
– سأبتعد، أريد أن أكون بمنأى عن السوء، لن ألقي بنفسي إلى التهلكة.
أصبتها بكلماتي، فالتفتت إليّ ورمقتني بنظرة استغراب:
– إنّه نائم! لن يؤذينا وهو نائم!
كان العائل ينام على شقّه الأيسر وعروق وجهه تضيء في ظلام الليل، وابنة عمّي متعطّشة للدمّ، فأظهرتْ استخفافا وتهوّرا.
غبيّة لم تر مثل ما رأيت.
تراجعت إلى منطقة آمنة، فلحقت بي.
– هلّا نزعت الخوف عنك، ابنة عمّي؟ كأنّ الأحداث التي عشتها قد كبّلت شعورك وعطّلت تفكيرك، هيّا تشجّعي! إنّه نائم كميّت!
آه من هذه “الفرخة”! تعاملني بقسوة وقلّة أدب، متى كان الفرخ يزقّق أباه؟ تركت ألمي يحرق دواخلي ووجّهت إليه نظراتي من جديد، تفحّصته بدقّة، نظام الرؤية الليلية لديّ خارق يمكن أن أخرق به عمق الأرض، والضوء الخافت الذي عمّ المكان فجأة زاده حدّة. كانت البقع الحمراء من أثر الحكّ دمامل توسّعت في صفحة وجهه وهو يتنفّس بهدوء. أتراه نائما حقّا أم هو متناوم؟
استعملت حاسّة سمعي، عدّلت شعيراتها الدقيقة كي ألتقط موجات أنفاسه لتحليلها، من الضروري أن أقوم بذلك إذا أردت الاطمئنان على حياتي.
قبل أن تشاركني ابنة عمّي هذا المكان، كنت أنتظر متربّصة قرب النافذة حتّى ينقلب على ظهره، فأعرف حينها أنّ النوم قد تمكّن منه، عندئذ أتسلّل إليه بخفّة في مغامرة محفوفة بالمخاطر.
– أنصتي جيّدا، ابنة عمّي، هناك مقاطع نبضات منفلتة، أعتقد أنّ في طيّاتها دليلا مؤكّدا على كونه يتصنّع النوم.
أنصتت بعناية ثمّ هزّت رأسها نفيا:
– اطمئنّي، لا توجد أيّة إشارة تدعم مخاوفك. كما قلت لك إنْ هي إلّا وساوسك القديمة قد عادت إليك.
ولتثبت لي خطأ حدسي وتشبع غرورها، شقّت طريقها نحو الرجل المنكمش على نفسه تحت اللحاف بكلّ تهوّر، فاستعدتُ صور تلك الأحداث الأليمة التي مازالت قائمة في الأعماق البعيدة لدماغي، لم أقدر على أن أبعدها عن ذهني.
كنت صغيرة عندما تركتني أمّي في بيت مثل بيوت الأسكيمو الثلجيّة المكوّرة واختفت كأنّها لم تكن. ومن الغريب أنّني لم أفتقدها. كان إحساسي ميّتا تجاهها، كأنّ الله شدّ على قلبي لأحيا بدونها، ولمّا واتتني اللحظة التي عزمت فيها أن أخطو خارج البيت فوجئت بمكان أشبه بمعسكر آكلي اللحم النيّء، على أرض سبخة، يعجّ بالبيوت المشقوقة، وأجزاء منها تطفو فوق سطح الماء، والمئات من إخوتي يلهون بالمياه المجمّعة في علب الصّفيح. جاريتهم في لهوهم فغطست وطفوت في المستنقع المالح حتّى تحوّلتُ إلى مرحلة النضج الكامل. وذات يوم أسود، مرّت طائرةُ رشّ ملعونة على ارتفاع منخفض وأطلقت علينا قذائفها، أمطرتنا بمادّة بيضاء كالعهن تتميّز برائحة لاذعة لم أر لها شبيها إلّا تلك المادّة الفوسفوريّة الحارقة التي صبّها اليهود في قطاع غزّة. كانت مجزرة بحق، لم أتخيّل أنّ في تلك الفوضى سأتخلّص من إهاب العذراء، ولكنّ الأمر قد تمّ على نحو ما، وقضيت من الذكَر وطري، لذّتي الدنيويّة لتستمرّ دورة الحياة. كانت استثارة البُظُور ومغالبة الضعف بالفحولة طريقَتَنا في النضال لتعويض مَنْ مات، وليجد المستبدّ في المستقبل ما يحصد. كانت تلك عبارة العائل سمعتها منه في الليلة التي غزوناه فيها، وأحللنا لأنفسنا دمه.
جئناه من فوقه، ومن أسفل منه، وانتشرنا في أرجاء بيته.
وجدناه جالسا، حوله الكتب، وأمامه التلفازُ، يشاهد قناته المفضّلة، فركّبنا في خراطيمنا سكاكيننا، وأخذنا مواقعنا. جلسنا على أعضائه، وبحثنا بخراطيمنا عن المسامات التي يخرج منها عرقه، غرزنا فيها مصّاصاتنا وبدأنا نشرب. لم أستخدم لعابي كي أمنع تخثّر دمه، كان معامل اللزوجة عنده منخفض للغاية، كما لو أنّه ماء ينزلق إلى جوفي بسهولة، وكان التلفاز في تلك اللحظة يعرض أحداث الحرب على غزّة، ويتحدّث عن اختبار حقيقي لأسلحة متطوّرة، الأشلاء الممزّقة والبيوت المدمّرة ومقادير النسف الهائلة تشدّ انتباه العائل، فلم يشعر بوجودنا، يحملق في الشّاشة المضيئة مخدّر الإحساس، وكلّما آلمه مشهد توتّرت أعصابه، ونفر دمه بقوّة في بلعومي، إلى حدّ الاختناق. وحين اكتفيت سحبت مصّاصتي ببطء، وطرت…
ما كانت ابنة عمّي يومها حاضرة، إذ يهذي العائل ليلا في منامه: “تعسا للعرب! تعسا للفراعنة! إذا لم تأخذهم حميّة النجدة فلِمَ يوالون العدوّ ويسدّون عن إخوانهم منافذ الهرب؟”…
ما كانت حاضرة آنذاك وقد تكالبنا عليه، وما تحسّست حرارة كفّيه وهو ينشّنا بهما لإبعادنا عنه في حركات سريعة لا إراديّة، فيسقط منّا العشرات هلكى، ويتناقص عددنا تدريجيا.
أتت إلى الدنيا بعدنا، ووجدت، في تلك الأحياء الراقيّة التي تمنعنا مكيّفاتها وبُعّد المسافة عنها من اجتياحها، عائلا رضيعا شبعان. أخبرتني أنّ ربّة البيت هناك قد عطّلت المكيّف في غرفة نوم الصّغير خوفا عليه من الإصابة بنزلة برد، وسدّت تيّارات الهواء، فأخذتْ راحتها، وغاصت في السّعادة.
كانت وحدها على وجبة شهيّة، وفيها من الشّره ما جعلها تستمتع إلى الحدّ الذي أصبح فيه الرّضيع كأنّه طبلة مدعوكة بحبّات الرّمّان. ومن قلقها عليه، راحت الأمّ تكمّده بأعشاب وعقاقير لها رائحة شنيعة تخنق الأنفاسَ وفي ظنّها أنّ ابنها “زوڤر”، ولمّا كانت لابنة عمّي حساسيّة ضدّ الرّوائح الخانقة فقد جعلها ذلك تندفع خارجة بحثا عن عائل جديد…
استخدمت ما لديها لتشمّ الاتّجاه شمّا، إلى أن وصلت إلى هنا. ولولا أنّها وصلت في حالة تشبه فقدان الوعي، ما صدّقتُ أنّها جاءت من مكان بعيد دون أن يجذبها رائحة إنسان في الطريق، فهل أنّ النّاس في تلك الأحياء الرّاقية التي مرّت بها لا يعرقون ولا يتنفّسون؟ أم أن هناك أنواع شتّى من النّباتات تسيّج دورهم وتكسو حدائقهم فتحول دون تمكّنها من استنشاق غاز الفحم الذي به تتحدّد مواقعهم؟
كانت قد وصفت لي تلك القصور المتخمة بالنزوات والأنوار، وتلك الحركة التي تتبدّى ليلا وتختفي في النهار، وحدّثتها عن القناديل المكهربة والإبادة بالدّخان والغازات السّامة، ولمّا فتحت عينيها على وسعهما فزعة طمأنتها، قلت لها لم تعد تلك الوسائل مستعملة إلّا في التلفاز، وكتمت عنها السرّ المدفون في العبوة الاسطوانيّة الحمراء الساكنة قرب رأس العائل، والتي كُتب عليها “بف باف .. لا شيء يقتل أسرع، ويستمرّ في الإبادة لمدّة أطول”. لم يستعملها العائل إلّا مرّة واحدة، وخرج كلّ شيء عن السيطرة، ولم يتبقّ حيّا غيري.
من الصعب عليّ نسيان ذلك، وكلّما فكّرت في الأمر برويّة أدركت كم كنّا مخطئين. كان علينا أن نعطيه فرصة، بعد امتصاص دمه، لتجميع أنفاسه وتجديد دمائه، فحتّى ملك الموت يعطي راحة، ولكنّنا كنّا نفتقد قانونا نافذا ينظّم تقاسمنا للغذاء، واتّفاقيّة تحدّد مناطق النفوذ عليه، وكيفيّة الحركة فوق بشرته الملساء وزمانها.
شعرت أنّني أعود إلى اللحظة، كان وهو مهموم بما يشاهده تعيسا جدّا بما يراه، متألّما من تصريحات المتخاذلين، وبيانات الحاقدين، فاندسّ في الفراش، وحاول النوم، ولم يكن في أذهاننا نحن سوى وجبة الدم الضروريّة لتكوّن بيضنا، فوقعنا عليه جميعنا بدون حذر، ونهشناه في كلّ بقعة من وجهه المكشوف لنا، وهو يدخل رأسه من حين لآخر تحت الغطاء، أو يغطّيه بالوسادة، يتقلّب ذات اليمين وذات الشّمال كأنّه ينام على “الڤندول” ، ولمّا أعجزناه نهض من فراشه وأشعل الضوء، بحث قليلا ثمّ سحب منديلا طاردنا به، فاختبأنا هنا وهناك في شقوق الغرفة، وفي طيّات ملابسه المعلّقة قرب سريره، التصقنا بها حتّى خمدت ثورته، وهدأ الغبار المثار من أعلى رفوف مكتبته المتواضعة، ولمّا عاد ليريح رأسه على الوسادة، عدنا فشعر بالإحباط، وأمضى بقيّة ليلته جالسا.
ليومين متتاليين، يقوم متأخّرا عيناه منفوختان، وجسده ثقيل، يرفعه بصعوبة. يفرك جبهته وينظر إلى هاتفه المحمول القابل للثّني، يضع يده على الجهاز النّاعم ويسحبه بتثاقل إلى حدود عينيه، يتملّى الوقت في اللوح المضيء، ثمّ تنشط ذاكرته بسرعة فيفتح الجهاز على عجل، ينقر نقرا سريعا على لائحة المفاتيح مكوّنا رقما، وبعد ذلك يقرّب الهاتف من أذنه اليمنى، ينتظر للحظات ثمّ يتمتم:
– آلو! بربّي، حمّادي، pointer في بقعتي، وإذا واحد سأل عليّ قلّو في الـtoilettes.
ويغرق في النّوم من جديد…
وفي مساء اليوم الثالث، دخل كشيطان، بيده العلبة الحمراء، وتوجّه نحو نافذة الألومينيوم فأحكم غلقها، ثمّ عاد فأغلق الباب بركلة واحدة من قدمه، وهو يلقي إلينا نظرة غريبة ويتنهّد.
كنّا وقتها معلّقين في نهاية خيط الكهرباء الواصل بين السقف وأنبوبة الضوء، فانخفضت رؤوسنا إليه. رأيته يرفع عن العلبة غطاءها، ويوجّه فوهتها نحونا ويضغط بإبهامه، وهو يصفعنا بكلمات ظلّت تخبط أذني:
– ناقص آنا حتّى نعمل ليكم مصروف خاص.
ولا أدري كيف ألهمني الله السبيل، فعوض أن أطير ناحية الضوء، انغرست في شيء ليّن تحت السّرير ولبدت فيه للحظات رهيبة، ومع مرور الوقت أدركت أنّني أدوخ من رائحة جورب قدم كريهة…
وضعت أفكاري جانبا، وعدت إلى ابنة عمّي أراقبها، كانت منتشية تؤدّي رقصة التّيقّظ التي درّبتها عليها، اقتربتْ من أذن العائل وأرخت أجنحتها مصدرة طنينا يوقظ الموتى، ثمّ لفّت حول نفسها في حركة خاطفة وتراجعت بسرعة، قيّمتْ الموقف من بعيد، كان العائل في الوضعيّة المفضّلة لها، عادت مرّة أخرى واقتربت أكثر حتّى لامست شحمة أذنه، وسمعت أنفاسه، ضربته بجناحيها مرّتين، ثمّ حطّت بهدوء قرب الحاجب، وسلّت سكاكينها.
في تلك اللحظة بالذّات، لاحظت أنّ أصابعه الظاهرة من الغطاء ترتعش قليلا، واللّحاف ينزاح ببطء، فشعرت بقلق مفاجئ عليها، وقبل أن أناديها لأنبّهها كانت ذراع العائل قد تحرّكت بسرعة، وارتفعت يده ثمّ هوت، خبطت جبهته بقوّة محدثة صوتا فظيعا، وحين نظر العائل بحثا عن دمه في كفّه، شعرت بالغثيان.