جمدَ أمام اللوحة ربع أو نصف ساعة، وربما أكثر، لا يهمه رأي أي ناقد في إدراجها ضمن مدرسة فنية محددة، يكفيه ما لفحه من ألقٍ يخط تعبيرات وجه المرأة الشارد نحو ضباب فضاء اللوحة، يعيده إلى سنواتٍ ولّت متواثبة، مثل الريح الخريفية التي استقبلته لدى خروجه من الروّاق الذي اعتادا زيارته معًا، يتأبط تحفته بعد طول مساومة على الثمن الرخيص.
نسائم البرد الناعمة تهب جسده حيوية الشباب. تتطاير خصل الشعر المائل إلى الحمرة والطويل يمينًا ويسارا، متراجعة للخلف مع كل خطوة وئيدة تمضي جهة مغيب الشمس، ثم تعود إلى ذات تجعدها في اللوحة، تتدفق بكثافة شلال تتهاطل عذوبته في عينيه شبه المغيبتين عن الطريق، امتداده يتفرع بين الميادين والأفرع المضوَّعة بعبق وجودها الخفي.
تمايل خصرها على مد ذراعه كان يغريه بجذبها إلى عناقٍ لا يأبه بحملقة عيون المارة المقتحمة خصوصيتهما، ينعزلان في شقته الصغيرة عن كل تبجحٍ ورقيب، في البدء كانت مكتب محاماة محدود القضايا. مزقَ الملفات والأوراق القديمة ونثرها فوق رأسها مثلما تنثر الورود البيضاء على عروسٍ في ليلة الزفاف، شهدتها الأرض الصلدة والمروية ببرد أيلولٍ بعيد، بعيد جدًا، دُرِج ضمن تاريخ عقد زواج موَثق بأختامٍ حكومية، مثله مثل بطاقة الهوية الشخصية لديهما، يشهرانه عند اللزوم، على غير توقع منهما أقبل مسرعًا كمباغتة شهاب، أجبرهما على تمثيل مسرحية العرس بإشرافٍ عام من أهلها، وأمام استغراب أهله من آخر تقليعات جنونه المفاجئة.
صارا زوجين في العلن، غريبين عن بعضهما، حتى تم الطلاق، مستسخفًا تلك الكلمة، الأشبه بالموت لدى الكثيرين، عندما نطقها لسانه، في ذلك اليوم أترعا جسديهما عشقًا من بعد نضوب في نشوة انتصار ورفرفة وداع لم تعقبها كلمة أو نظرة تؤجل اختفاءها من الشقة، وحياته.
لم تخلِّف سوى لوحة كانت متاعها الوحيد في شقته أول تعارفهما، رسمها لها عاشق سابق، غلفت حكايتهما المنتهية بالصمت العصي على نوبات الفضول، اقتنص وجهها في جلسة شرود غامض نحو الأفق الغائم، ترتدي ثوبًا يشف عن تكور نهدين نافرين من غبار ذلك الروّاق العتيق. لا يعرف كيف وصلت إلى هناك! نسيها تمامًا لمّا قرر ترك الشقة بكل ما فيها، بعد عدة مغامرات فاشلة أجججت غرامه بها أكثر فأكثر، إلا أنه لم يجرؤ على دفع نقطة النهاية قيد حرف عن قصته والزوجة المدللة للعجوز الثري، دائم السفر.
وصل بيته الصغير وبسيط البناء متأخرًا عن وقت رجوعه، كانت زوجته وابنته ترتديان حجابيهما في انتظارٍ قلق على عتبة الباب، صرخ بهما، تجاوزهما بتذمره من السجن الراضخ في أغلاله منذ عمر، دخل غرفته الخاصة، وأوصد بابها عليه، غير مبالٍ بتمتمة كل منهما.
وضع اللوحة على الطاولة وفض عنها الغلاف الورقي، اختلج صدره، ألقاه الشدوه على كرسيه، انحنى فوق اللوحة المسَلط عليها ضوء المصباح المنضدي، راح يحدِّق في الوجه المتغضن، انسحاق النهدين المتهدلين تحت الثوب الشفيف، الشعر الرمادي المسترسل إلى جانبي كتفيها، وجذوتي عينيها الموشكتين على الانطفاء.