نيتشه هو فيلسوف الفلاسفة بلا شك. لربما هو فيلسوف الأدباء أيضا، دون حيازة شرف أن يكون أديبا للفلاسفة. مادام أنه لم يخلف إنتاجا أدبيا بالمعايير المتعارف عليها. كما هو شأن المعري في التراث الإسلامي. مع ذلك و استنادا لرؤية نيتشه نفسه المضادة لسلطان القيم السائدة بما فيها معايير التصنيف الواجب هدمها أو قلبها في أحسن الأحوال. فإنه يمكن اعتبار كتاب نيتشه الرئيسي ” هكذا تكلم زرادشت” مؤلفا روائيا، مسرحية، سيرة ذاتية، فلنسمه ما شئنا. فلا مشاحة في الأسماء. المهم أنه عمل أدبي قح إذا ما كان الأدب في آخر المطاف هو عمل اللغة و الخيال الخلاق. فإن نيتشه لا يُجارى بهذا الصدد. يظهر ذلك بوضوح في اخيتار الأسلوب الشذري المفعم شعرية في التعبير عن أغلظ الأفكار الفلسفية و أكثرها جفافا.
قد يكون هذا الحكم التاريخي ذاتيا خالصا، مرده دمغة شخصية سقط صاحبها في إعجاب واع إزاء نيتشه. – على الأقل تعويضا له عن خيباته النسائية الروسية للو سالومي- لكنه اقتناع مبرر طالما لا يوجد أي أمر غير شخصي بالنسبة لنيتشه كما يصرح في ميلاد الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي حين ينسب قوة حياة الإغريق إلى الإبداع الذاتي لجمهورية العباقرة المقصود بهم الفلاسفة الطبيعيون قبل سقراط مثل هيراقليطس و بارميندس.
رغم هذا كله. يبدو ما غامرنا بالقول سابقا أن مؤلف نيتشوي كتاب أدبي بامتياز خلاصة مقبولة لكل دارس فلسفة، امتد عنقه المينرفي تلصصا على بعض الصيحات الأدبية المعاصرة الوازنة الفريدة من نوعها التي قدمها الأديب التشيكي ” ميلان كونديرا”. و هو اشتباك شهي يغري بنشوة فل-أدبية لا بد من تتبع بعض آثارها و آفاقها.
فلنصرح بداية. لنزح شبهة منهجية قد تشوش مسالك العرض. فالحديث عن أثر لنيتشه في أدب كونديرا ليس معناه استقراء أوجه علاقة أبوة فلسفية سواء اختيارية أو متسلطة ، حكمت مقتضياتها على كونديرا اتخاد أفكار نيتشه مرجعية يستلهم منها خطه التحريري في روايته كلما أراد رسم صورة شخصياته الروائية أو كشف مشهد أدبي.
إن هاجسا كهذا مردود على وجهين من نيتشه نفسه الذي رفض كل وصاية على الفلاسفة فما بالك على الروائيين لأن الوصاية و التقليد و التأثر نفي كلي للوعي بالذاتية باعتباره الشرط الضروري لبزوغ الإنسان الأعلى كمقولة أساسية في فلسفة نيتشه. يعبر عن ذلك بوضوح بقوله في كتاب هذا الإنسان : “حين وجدتموني لم تكونوا قد بحثم عن أنفسكم”. أما كونديرا فهو على نفسه الخط حيث يتبرأ تماما من أسبقية الفعل الفلسفي على العمل الروائي، مشيرا أن الرواية استطاعت الكشف عن أمور وجودية قبل وقت طويل من وصول الفلسفة لها. أكثر من ذلك فإن كونديرا رغم تدشين روايته الأهم كائن لا تحتمل خفته بفكرة العود الأبدي النيتشوية فإنه يعتقد جازما بل و مقتنع بشكل حازم أن الأدب و بالضبط الرواية لم تكن أبدا ابنا سواء طيعا أو عاقا للفلسفة. لأن طبيعتهما مختلفة تماما قد يتشابكان أحيانا لإثارة النقاش لكنهما كالخطان المتوازيان لا يلتقيان أبدا.