في الفلسفات القديمة ارتبط الجمال بفلسفة الكون واللاهوت ،وهذا الأمر يبين لنا وبكل وضوح ،أن الجمال ترجمة لمفهوم آخر وهو” المقدس”
نعم.. هناك علاقة وطيدة بين الجمال والمقدس ،يمكنني أن ألمح معالمه في كل ما يدور حولنا من تمظهرات لهذا الجمال ،فقد ربط الإنسان ومازال الجمال بالشيء المتقن الصنع الذي يبلغ درجة الكمال، ولا علاقة له بالأحاسيس أو اللذة ..
الجمال هو الظهور المادي المجسم للقدرة الخارقة لأي صانع ،وهذا راجع الى الجذور التاريخية لهذا المفهوم وكيف كان يتصور ،فمثلا المرأة الفاتنة تشير الى الكمال والمرأة القبيحة تشير الى الساحرات أو الشيطان ، البناية ذات الهندسة المثالية تشير الى الذوق العالي ،والبناية الخربة تشير الى بيوت الجن والأرواح الشريرة..
حتى الطبيعة لم تسلم من تلك التصنيفات، فمثلا الزهور الملونة تعبر عن الجمال والنباتات الشوكية تعبر عن القبح..
مفهوم الله والشيطان يؤثران بشكل لافت على مفهوم الجمال ،بل أن الأضداد في كل شيء تجد جزء منها يشير إلى الله والجزء الآخر يشير إلى الشر ..
النهاروالليل ،رغم تراكم المعارف حول ماهيتهما ،وكيفية حدوث
هذه الظواهر الكونية ،ستجد أغلب البشر تشعر بأحاسيس مختلفة تجاه الليل، رغم أن كل الأشياء التي شرقت عليها الشمس هي نفسها التي ستغرب عليها ،لن يتزحزح شيء منها من مكانه أبدا ،فالحديقة العمومية في النهار هي نفسها في الليل ، “نفس الكراسي ،نفس الأشجار ،نفس الأرجوحة ،نفس البوابة…”لا شيء تغير سوى انعدام الرؤيا بالنسبة لك ،ففي مخيلتنا كل شيء يغادر مكانه في الليل حتى الأرواح لم تسلم من هذا المعتقد..
أما بالنسبة للضوء أو النهار ،فهو يدل مباشرة على الخيرية والجمال يرتبط مباشرة بمصدر النور الكامل والمقدس..
حتى بالنسبة للألوان يتم التفريق بينهما ، فعند البشر تدل البشرة السوداء غالبا على القبح الذي يرتبط بالظلمة الذي يرتبط بالشر الذي يرتبط بالشيطان الذي يرتبط بالجحيم..إنها سلسلة متشابكة لا تفرقها سوى كلمات ظاهريا تبدو مختلفة لكن عند التأمل فيها تكتشف أنها نفس الشيء..
إذن ماهو الجمال ياسادة!
هل فعلا هو فعلا إحساس وشعور باللذة كما وصفه بعض الفلاسفة ،أم أنه شكل مادي جميل لذاته؟
لم أقتنع أبدا بكل تلك التعاريف التي شرحت مفهوم الجمال من الفلسفة اليونانية الى العصر الحديث ،الا إذا فاتني شيء لم تتح لي الفرصة للإطلاع عليه..
في نظري الجمال هو كل شيء مادي تلتقطه العين ،وهو كل شيء معنوي تلتقطه الحواس..
بمعنى ليس هناك أي فرق بين الجميل والقبيح..
في نظري وجود أسد بشعر كثيف في الرأس يميزه هو نفسه وجود أنف مسطح لخنزير ..
صوت زقزقة العصافير هو نفسه صوت البومة ..
شعورك بالغضب هو نفسه شعورك بالإرتياح..
إنها فقط مظاهر متنوعة تشكل وجودك ..كأي تنوع آخر لا تلقي له بالا ،لأنه لا ينتمي إليك..
وجود خراف تتناطح ،قد يشعرك ببعض المتعة أو قد تمر عليه مرور الكرام ،دون أن تسأل : من الظالم ومن المظلوم ،من الفائز ومن المهزوم..من الحاكم ومن هو العبد..
نفس الأسئلة ستجيب عنها بسرعة الضوء إذا تعلق الأمر برجلان يتصارعان في السوق..وياللحماس إذا كان طرف من الأطراف من شيعتك أو من عدوك..
هذه الأمثلة أطرحها ،لتكتمل لديكم الصورة ، ولا يكون هناك أي لبس في فهم معنى الجمال بجميع متعلقاته..
كل شيء داخل المنظومة الإنسانية يؤدلج علمنا أم لم نعلم ،رضينا أم لم نرض..
جميعنا وبدون استثناء نضع صناديق فوق رؤوسنا ، تؤطر العقل ولا تترك له المجال لإعادة تشكيل المفاهيم دون الإعتماد على المسميات ودلالاتها ..
والتاريخ يثبت أن الكلمات مثل طبقات الأرض المتراصة مهما حاولنا، فلن نستطيع الوصول لأول طبقة شكلت كوكبنا الأزرق..
وهذا بالتحديد هو ما حاولت طرحه في هذا المقال…