صدرت حديثّا المجموعة القصصية إرادة حرّة ـ قصص قصيرة جدا للكاتب الأردني الدكتور حسين جداونه في كتاب إلكتروني، وهي المجموعة القصصية الرابعة عشرة ضمن مشروعه الإبداعي في السرد الوجيز: القصة القصيرة جدا. يضم الكتاب مئة نص، ويقع في مئة وإحدى عشرة صفحة من القطع المتوسط، الطبعة الإلكترونية الأولى 2024م.
تحتفي المجموعة بعدد من الموضوعات الاجتماعية والثقافية والسياسة. فهي تكتب عن وحشيّة الآخر وعنفه، وعن شرعنة الشر وسطوته وقوانينه النافذة التي نصنعها بأيدينا ثم تتحكم بنا، فإذا لم تمكني من لحمك ودمك وعظمك فأنت عدوّ شرير، تجب مقاومتك والقضاء عليك. إنه صراع الوجود الأزلي، فالقوانين التي تحكم الغابة هي عينها التي تحكم المدينة؛ لذا تتماهى في المجموعة الغابة بالمدينة، والبشر بالحيوانات، في لوحات صادمة للإنسانية المزيفة، التي تتقنع بالحضارة والمدنيّة. وتبلغ المأساة إحدى ذراها حينما تصبح الأنا هي الآخر، فتخوض حربًا شرسة غبية، ضد نفسها، نتيجتها دمار الذات وعذابها المستعر. إذ نصبح كلنا الآخر، يحاسب ويراقب بقصد التقييد والإحباط، وليس الإطلاق والرجاء. فثمة علاقة مربكة بين الذات والآخر، إذ يدخلان في علاقات مشبوهة من النفاق، والاستغلال والأنانية البشعة التي تتغذى على جثث الآخرين، وهي كلها علاقات مدينة.
وتكتب المجموعة عن براءة الطفولة، وعن الطفولة الضائعة، وعن الخوف الذي يرتسم في عيني الطفل من الحاضر والمستقبل، وعن ضياع القدوة، وعن خيبة الطفل المبكرة إزاء الواقع المعيش، وعن إعادة صياغة المفاهيم الأساسية في وجدان الطفل، كالعدل والسلام والمحبة، وعن تماهي الوطن بالأم. وتكتب المجموعة عن حالة اليأس وانكسار الروح وتشظيها أمام قسوة الواقع، بحيث تصبح الذات جزءًا من الواقع المرير. وتكتب عن القطيع، وعن الروح الانهزامية التي تسوده وتتحكم به، فهو يحتاج إلى حاكم يعبده، وإذا لم يجد صنع له إلهًا بيديه ووقع له ساجدًا. وتكتب عن الخيبة بشتى تجلياتها، الخيبة بسبب الذات، والصديق، والزوج، والزوجة، والأبناء، والدولة، والعالم كله. فالمادة القصصية في المجموعة تنهل من تفاصيل الحياة وتعرجاتها، ومن اللحظات المفصلية في حياة الإنسان.
وهي نصوص تكتب حالات إنسانية، قابلة باستمرار لإعادة كتابتها من جديد. فالقارئ يظن لأوّل وهلة بأنه اكتفى بمعنى هذه النصوص القصصية، لكنه سرعان ما يكتشف أنه أمام نصوص مخاتلة، تخفي عملا جادًّا، مقتصدًا، بعيدًا عن الثرثرة، تستفز القارئ وتدفعه لإعادة قراءتها من جديد.
ينبغي أن نلحظ ونحن نقرأ نصوص القصة القصيرة جدا أنه في كثير من الأحيان تصبح المفردات مفرغة من معانيها الأصلية، ومتلبسة بمعان ودلالات مختلفة أو متضادة مع معانيها ودلالاتها الأصلية. وينبغي أن نلحظ مسألة أساسية في فن القصة القصيرة جدا، فهي لم تعد قصة بالمعنى القديم لفن القصة، وإنما أصبحت سردًا يحتوي الروح القصصية لكنه قائم على خلق لوحات تتضمن مواقف صادمة، عبر آليّة التضاد بمفهومه الواسع، مولدًا دلالات جديدة.
والقصة القصيرة جدا فن طرح الأسئلة المربكة، على مستوى الشكل والمضمون. فثمة علاقات مرتبكة تتعلق بالشكل التجريدي للقصة القصيرة جدًا، وثمة علاقات مرتبكة تتعلق بالمضمون وبالمواقف التي تتناولها، فهي فن إعادة النظر في كل ما هو مألوف وقارّ. تقلقل المفاهيم المستقرة، وتزلزلها، وتتركها تترنح تحت وطأة طرح الأسئلة والمزيد من الأسئلة.
لذا فالقصة القصيرة جدا جديرة بأن تحظى بمكانة أدبية وثقافية رفيعة لقدرتها على استيعاب آمال الإنسان وآلامه، ولقدرتها على تصوير أعمق المواقف المفصلية في حياته تصويرًا دقيقًا.
ومن أجواء المجموعة القصصية نقرأ النصوص الآتية:
كلاب ضالة
تكاثرت عليه الكلاب الضالة..
أطاح بواحد منها.. اثنين.. ثلاثة.. تحايدت مواجهته، فاستمرت تنهش ظهره وجانبيه بضراوة، وعندما نال منه الإعياء، سقط على الأرض مضرّجًا بدمائه..
عندها لن يرحمك أولاد الحرام…
***
تلميع
عمد إلى حذائه المهترئ..
أزال عنه التراب والغبار، غسله بالماء والصابون، ثمّ بعد أن جفّ أخذ يلمّعه بأجود الأنواع..
صار حذاء نظيفًا لامعًا مهترئًا…
***
عالم آخر
توالت أصوات الانفجارات في كل أرجاء المدينة.. هام الناس على وجوههم.. تعالى صراخ الأطفال والنساء والرجال..
بهدوء، واصلت تناول وجبتي المفضلة من الجثة الطازجة.
***
سلام
سأل الطفل أباه:
ـ هل يمكن لي أن أعيش بقيّة عمري بسلام؟
أطرق الأب مليًّا.. ثم غمغم:
ـ ممكن جدًّا، لكنّه لن يحدث أبدًا.
***
يقين
دائمًا، كانت تساوره الشكوك تجاههم، لم يكن متأكّدًا من شيء. اليوم انجلى له كل شيء. من جرحه المفتوح، رآهم على حقيقتهم…
***