
في العمل لا يُحتم عليك أن تُمالئ رئيسك، أنت تؤمن بذلك، وكثيرًا ما قلت: لا.
لم تضع في بالك أن تنال علاوة، أو تعتلي درجة في سلمك الوظيفي. أنت أقوى دائمًا بالحق، لا يهمك شيء، صعاب عدة تجتازها، وفي كل مرة تطلق ضحكة مدوية، وأنت تقول:
– يسخطوك يا قرد يعملوك غزال.
شيء ما يكسبك الصلابة، أنت فقط الذي تدرك علة ذلك. مؤكد أن حياتك مليئة بتفاصيل جمة، جعلتك باديًا على هذا النحو، أو لعلها تلك النارُ التي تحملها في صدرك، نارُ بغضِك للعدو.
أصدقاؤك ينادونك:
– جيفارا.
كانت أمك تحدث الناس عنك:
– مايعجبوش الحال المايل.
برز شخصك جيدًا، حين كنت ترابض على الضفة الغربية لقناة السويس، بعد نكسة 67، واشتراكك في بعض العمليات الحربية التي تلت ذلك، حتى أُعلن وقفُ إطلاق النار. وحين نظرت للضفة الشرقية للقناة، استفزك وجودُ نفرٍ من العدو يُعَرْبِدُونَ أمامك، لم تتمالك كظم غيظك. تمسك برشاشك، تصوبه تجاههم، دون أن تعبأ بأي أمر. لم تضع في حساباتك أنْ تُنعت بأنك متهورٌ أو مجنون، أو أن تَمْثُلَ للمحاكمة العسكرية.
“تعيش كبد وتموت كمد” (1)، تكابد الحياة. ربما الشعر الأبيض أصبح يضفي على ملامحك مهابةً ووقارًا، يفضحك، إلا أنَّك مازلت تستشعر أنك مختلف عن أقرانك – ربما تشبههم فقط في ملامح العمر- وهذا لا ينبئ عمَّا بداخلك. هم يوقنون أن أعمارهم سرقت منهم، قانعون بذلك، ولذا يرددون:
– يلَّا حسن الختام.
بين آن وآخر، تذكر الأستاذ حسين بقوله:
– البشر اللي أنا شايفهم كلهم دشت (2)، أنا شايفك غيرهم.
تمضي بك الأيامُ وتبقى نارُ صدرك مؤججة، تتحمل سخافات السفهاء، حماقات الأزمات، وأيام القهر والامتهان. جميعُها يزيد عودك النحيف نحافةً ، إلا أنك تظل مُتماسكًا، لا تميد بك الأرض. كونك مرؤوسًا، أو تنتمي للمهمشين لا يضيرك، صوتك لا يملك أحد أن يقمعه. يقولون عنك:
– مجنون.
تهز رأسك، وأنت تقول:
– مجنون مجنون، صوتي عالي.
وحين تنكَبُّ على نفسك، تلومها.
– مين بيسمع صوتي.
تذكر سعيد زميلك حين كان معك، وشاهدتما في وسط القاهرة رجلًا أشعث، أغبر، عليه لباسٌ قذر، يسير في شارع التحرير، يجهر بصوت موجوع:
– حكومة بنت ……
حينها قال لك:
– أنا خايف عليك لتبقى في يوم من الأيام زي الراجل ده.
أَسررتَ بذلك القول لنفسك أيضًا، عندما رأيت رجلًا آخرَ، أقل ما توصف به هيئته أنه مخبول، تطوع بالوقوف عند إحدى إشارات المرور، وأخذ يشير بعصاه للسيارات، ويطلق صافرته موهومًا أنه ينظم المرور.
أحيانًا تبدو حكيمًا مثل اليوم، يتحَلَّقُون حولك؛ فتطول جلستك، تستمع إليهم وتفيض.
(أنت العليمُ إذن ببواطن الأمور)
هكذا تبدو، وقد نحيت نقاط ضعفك جانبًا. لا تنساها حينما تجلس إلى نفسك.
ينتهي لقاؤك بهم، يصافحونك:
– الوقت مرَّ بسرعة.
تخلو بنفسك، تُعَدِّدُ أسبابَ حزنك، ألمك، تخشى أن تقول يومًا:
– يلَّا حسن الختام.
—-
(1) من ديوان (جبال الكحل) للشاعر / أحمد الصعيدي- مصر .
(2) يستخدم هذا اللفظ في أرشيف المؤسسات العسكرية والحكومية، ويطلق على الورق الذي سجل فيه بيانات وكتابات، وقد عفا عليه الزمن، وأصبح (مالوش لازمة)، ويقال: اندشت.