يبقى “خالد”، وهو الشخصية المركزية في رواية “مقصلة الحالم” للشاعر والكاتب الأردني جلال برجس، فاردا جناحيه في سماء مزاجه الحالم، وهو يرسم ملامح عالم يتجاوز إيقاع الحروب، ميمّما إيقاع حياة تبدو ضربا من اليوتوبيا، لكن في داخلها ملامح حلم واقعي بحياة حقيقية كما ينبغي.
يرى جلال برجس عبر عنوان روايته “مقصلة الحالم” -الصادرة حديثا عن دار الأهلية للنشر والتوزيع في عمّان في 368 صفحة من القطع المتوسط- وعبر شخصيات روايته، أن هنالك أحلاما تتحول إلى مقاصل تقتل صاحبها.
يبدو العنوان توريطيا على نحوه هذا، لكن بعد التعمق في فضاء الرواية سيجد القارئ أن هنالك انتصارات يمكنها أن تتحقق لصالح الفعل الإنساني على فعل المقصلة التي لم تُعدّ إلا لتكون أداة تمهد الطريق نحو الموت، أي أن شخصيات الرواية، وفكرتها ليست انهزامية.
الفعل الإنساني
ترصد الرواية التي تميزت بذلك العنوان اللافت -من حيث اقتران الحياة بالموت عبر مفردتي المقصلة والحالم- الأثر النفسي لمرحلتين سياسيتين مهمتين في العالم العربي، عبر رجل غاب في معتقل صحراوي عشرين عاما ثم عاد ليواجه عالما جديدا تبدلت مؤثثاته الاجتماعية والفكرية والثقافية والسياسية ليفاجأ بأنه يحمل سجنه معه.
ويضعنا برجس ضمن هذا السياق السردي أمام حقيقة مفادها أن هنالك أنواعا من السجون تتناسخ من ذاتها دون القدرة على إقصائها إلا بالفعل الإنساني ذاته.
والفعل الإنساني الذي اتخذه وعوّل عليه برجس في عمله الروائي هذا، هو الحب بكل تجلياته الإنسانية، بعيدا عن المفاهيم السطحية، لمرتكز إنساني جاء في الرواية جبهة أخيرة يمكنها إنقاذ ما تبقى من كينونة إنسانية تبدو رهانا أخيرا، خسارته هي خسارة الحياة بحد ذاتها.
يُختطَف خالد من حياته وهو في آخر أيام دراسته الجامعية إلى عالم المعتقلات السياسية، ليس لنشاطه السياسي الذي كان محظورا آنذاك، إنما بسبب “تهمة لم يقترفها” كما كان خالد ذاته يردد طيلة الرواية، وهو يبحث عمّن دبر له تلك التهمة.
ويعمد برجس إلى الكشف عن الجوانب الإنسانية للمعتقلين، مبتعدا عن النمطية فيما يمكن أن يحكى عنه في هكذا شخصيات، فنلمس الجوانب الشخصية في حيوات رموز سياسية تحب وتعشق وتشتهي وتهزم وتموت.
وقد تبدى ذلك بقوة خلال شخصية “عبد الغفار” الذي جاء في الرواية رمزا سياسيا يساريا، ناضل طويلا، لكن شخصيته لم تكن انهزامية بل راحت لتبتكر حالات وأدوات مهما كانت غرائبية إلا أنها من وجهة نظر الشخصية كانت تنتصر للحياة، داخل المعتقل.
إحدى أهم الشخصيات التي ظهرت في الرواية هي شخصية الذئب التي كانت ترافق الشخصية المركزية في مقصلة الحالم وقد انبثقت منذ أول ليلة لخالد في المعتقل. وقد تطرق برجس عبر هذه الشخصية المبتكرة، وعبر ما تمثله لدى الفرد العربي من أنفة وتوق للحرية والخروج على القهر، إلى ذلك التقاطع الواضح ما بين شخصية خالد معادلا موضوعيا للفرد العربي الحر، وبين الذئب بوصفه محاكاة لهذا الفعل.
عشرون عاما تمضي في المعتقل بعدها يخرج خالد إلى عالم لم يتوقع أنه تبدل إلى ذلك الحد الصادم له منذ أن فُتحت بوابة العربة العسكرية التي أقلته إلى العاصمة عمّان، ليقابل الجهات الأمنية ثم يمضي إلى حياته الجديدة.
يجد خالد نفسه غريبا عن كل ما يحدث -شكليا ونفسيا- فقد تبدل كل شيء، إذ ترصد الرواية من هذا الجانب، تلك المرحلة الانتقالية ما بين زمن كانت تسوده أحلام أمة بالتحرر، وما بين زمن جديد أصبح العالم فيه بفعل مفاهيم العولمة وأدواتها مكانا واحدا، دون الارتهان لكل الاعتبارات التي كانت سائدة قديما.
سجون دون جدران
تبدأ مرحلة سجن خالد الثانية وهو يركن لعزلة طويلة في بيته الذي لم يجد فيه إلا جدته التي ظهرت في الرواية كمعادل موضوعي لمرحلة سابقة. تلك العزلة المحملة بقلق السجن الجديد وقلق السؤال عن سبب واضح لضياع عشرين عاما من عمره.
أدوات العصر الجديد الذي تميز بثورة هائلة للاتصالات هي التي تخرجه من سجنه الثاني وتمنحه سجنا جديدا ثالثا، وذلك عبر شخصية صديقه “عناد” الذي -بحسب الرواية- يتخلى عن نشاطه السياسي في بدايته، متمسكا بعالم عبثي أهمه التنقل بين أحضان النساء.
فبعد وقت يمضيه عناد مع صديقه خالد يصبح الأخير قادرا على الاندماج بعالم الإنترنت، حيث راح ينشر كتاباته القديمة والجديدة، ويتعرف على عالم غريب عنه، وتظهر شخصية سعاد فتنشأ علاقة حميمة تحولت إلى علاقة حب عبر موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك.
ثمة كثير من المفارقات والمفاجآت تحدث في الرواية عبر حكاية أتت بلغة اقتربت من لغة الشعر، وتعمقت في نفسيات الشخوص، كاشفة عوالمها الداخلية، ليصل القارئ إلى لحظة التماهي بتلك الشخوص وبالتالي عيش لحظة الحكاية.
وحرص برجس في روايته على تجريبية انسحبت على البنية الروائية التي تقاطع فيها الحدث الواقعي بالفنتازي والمتخيل، ساعيا إلى إيجاد مقولة استخلاصية للرواية تكتمل عند الانتهاء من قراءة هذا العمل الروائي.
يذكر أن الشاعر والكاتب جلال برجس أعلن سابقا عن فيلم قصير قام بإخراجه معتز أبو الغنم يعاين جانبا من الرواية، ومسرحية كتبها برجس نفسه عن الرواية ليصار إلى عرضهما يوم حفل توقيع الرواية، كخطوة جديدة تضاف لطقوس حفلات التوقيع.
وكان الكاتب الأردني قد أصدر سابقا عدة أعمال شعرية وقصصية بينها “كأي غصن على شجر” (2008) و”قمر بلا منازل” (2011) و”رذاذ على زجاج الذاكرة” (2011) و”الزلزال” (2012) و”القدس مادبا” (2013).