تقديم/ محمد بابا ولد أشفغ:
ازدانت المكتبة الإسلامية مؤخرا بكتاب جديد عنوانه “التسهيل والتكميل”، وهو عبارة عن نظم مصحوب بشرح نثري لمختصر الشيخ خليل في الفقه المالكي من تأليف العالم الموريتاني الجليل الشيخ محمد سالم ولد عدود رحمه الله.
وقد نشرت الكتاب دار الرضوان لصاحبها أحمد سالك بن محمد الأمين بن ابوه وقدمته في طبعة أنيقة متقنة من ستة مجلدات كبار. وعكف على إعداد هذه الطبعة طيلة أربع سنوات، فريق من خبراء الدار لأعضائه باع واسع في البحث والتحقيق والتدريس الجامعي والإفتاء.
الشيخ خليل ومختصره
لا نبالغ إن قلنا إن ألفية ابن مالك ومختصر الشيخ خليل حظيا لدى الموريتانيين بدرجة من الاهتمام والتقدير لم تحظ بها المؤلفات اللغوية والفقهية الأخرى التي كانت متداولة بينهم. ولعل أبلغ تعبير عن حميمية علاقة الموريتانيين بهذين المصنفين، أنهم سموا صاحب الألفية “ولد مالك” بدل ابن مالك، أي أنهم اعتبروه واحدا منهم، وهو ما لم يفعلوه بأي من أئمة اللغة العربية الآخرين. كما درجوا على نطق اسم صاحب المختصر بـ “اخْليل”، أي أنهم ينطقونه بلهجتهم العامية تقريبا له، وهو ما لم يفعلوه بأي من أسماء سائر الفقهاء.
وقد اشتهر خليل بن إسحاق الجندي -وهو فقيه مصري توفي عام 776هـ- بمختصره الذي قدم فيه خلاصة شاملة ومركزة لأدبيات الفقه المالكي المتداولة في عصره.
وقد بلغت شروح مختصر خليل وحواشيه نحو المائتين، وحظي بقبول حسن في الغرب الإسلامي عموما، واعتنى به الموريتانيون عناية خاصة، فكان الكثير من أهل العلم يحفظون نصه كما يحفظون القرآن.
وذكر العالم والمؤرخ الموريتاني المختار ولد حامدون في موسوعته أسماء 59 عالما موريتانيا تناولوا مختصر الشيخ خليل شرحا وتعليقا وتنقيحا، أكثر من عشرة منهم كانت معالجاتهم في قالب النظم.
وقد شاع في موريتانيا نظم العلوم والمعارف المختلفة وبرع أهل البلاد في ذلك لسببين: أحدهما افتنانهم بالشعر وتفننهم في قرضه، والثاني سهولة حفظ النظم خاصة أن شح الكتب وحياة الترحال المستمر حوّلا الذاكرة الفردية إلى أهم حامل وحافظ للمعرفة.
الشيخ عدود وكتابه
يعتبر الشيخ محمد سالم ولد عدود (1929ـ2009) واحدا من أكبر علماء وقضاة وشعراء موريتانيا المعاصرة. وللحديث عن البعد العلمي في شخصيته سأقتبس من مقال كتبته في تأبينه بعيد وفاته فقرة نصها “… سمح لنا رحمه الله أن نسجل إحدى حلقاته الدراسية في محظرته بأم القرى مطلع عام 2006 لعرضها على “الجزيرة مباشر”.
وأعتقد أن ذلك التسجيل يختصر الجانب المبهر في سعة علم الرجل، حيث كان ينتقل بعفوية وتدفق من التفسير إلى الفقه، ومن علوم اللغة إلى السيرة، ومن الشعر إلى المنطق، مفصلا ومسهبا حينا، ومختصرا وملخصا طورا، حسب مستوى كل طالب”.
وقد جمع الشيخ عدود بين هذا العلم النظري الغزير وبين فقه الواقع، حيث عاش عصره مهنيا وإداريا وسياسيا من خلال المناصب السامية التي تقلدها، كرئاسة المحكمة العليا، ووزارة الثقافة والتوجيه الإسلامي، ورئاسة المجلس الإسلامي الأعلى، فضلا عن عضوية عدد من المجامع والأكاديميات العربية الفقهية واللغوية.
ولم يطغَ بُعداه الفقهي والمهني على بعده اللغوي، حيث كان عالما لغويا من الطراز النادر دراية ورواية، كما كان شاعرا مبدعا، وقد خلف ديوانا عكست الكثيرُ من قصائده حس الرجل الاجتماعي والتزامه السياسي بقضايا وطنه الصغير وأمته الكبيرة.
وقد جسد كتاب التسهيل والتكميل -وهو نظم لمختصر الشيخ خليل- هذه الأبعاد المختلفة في شخصية الرجل. ولا غرابة في ذلك، فالشيخ عدود عكف على تأليف هذا الكتاب طيلة السنوات العشرين الأخيرة من حياته، وكان يسميه “مشروع العمر”.
وهذا الكتاب بنصه النظمي وشرحه النثري يتسم بسلاسة وطلاوة تنضحان بشاعرية الرجل الفذة وتبحره اللغوي العميق.
كما أنه يمثل مدونة شاملة ومنقحة للفقه الإسلامي وخاصة المالكي، إذ هو عصارة تجربة علمية طويلة وغنية اشتهر صاحبها باطلاع فقهي قل نظيره في الاتساع، وبخبرة عملية جمعت بين القضاء والإفتاء والتدريس محليا، وبين الاحتكاك المباشر بأكبر علماء الأمة في المشرق والمغرب.
ويعد هذا الكتاب أيضا موسوعة إسلامية وعربية حقيقية، إذ لم يقتصر مؤلفه -كما قد يتوقع القارئ- على الفقه فقط، بل زخر أيضا بعلوم اللغة والأدب فتضمن مباحث نحوية وصرفية وبلاغية، وحوى روائع من الشعر والحكم.
كما أنه لم يركز -كأكثر أنظام وشروح مختصر الشيخ خليل- على عرض فروع المذهب المالكي واستعراض خلافات أئمته، بل بذل جهدا عميقا في تأصيل ما زخر به المختصر من أحكام تفصيلية، مستعينا بدرايته الراسخة وتمرسه الطويل بعلوم القرآن والحديث وبقدرته على الاجتهاد.
أحمد سالك وخدمته للعلم
لم يشتهر أحمد سالك بن محمد الأمين بن ابوه فقط بأنه رجل أعمال شارك على نطاق واسع في بناء الاقتصاد الموريتاني الحديث، بل شاع أيضا إسهامه الكبير في خدمة العلم والعلماء والباحثين.
وليس كتاب التسهيل والتكميل للشيخ عدود أول نظم أو شرح لمختصر الشيخ خليل ينشره السيد أحمد سالك من خلال مؤسسته دار الرضوان، فقد سبق لهذه الدار أن نشرت:
– كتاب الكفاف وشرحه للعالم الجليل محمد مولود ولد أحمد فال (آده).
ـ كتاب الميسر للعالم الجليل محنض بابه ولد اعبيد.
ـ مواهب الجليل للحطاب، وهي أول طبعة دولية مراجعة ومحققة ومصححة من هذا الكتاب.
كما نشرت الدار مؤلفات موريتانية جليلة أخرى في مجال الأدب واللغة، منها:
ـ الرحلة إلى الحجاز، للعالم الجليل محمد يحيى ولد محمد الأمين ولد ابوه.
ـ دراسات في الشعر الموريتاني (حول ملامح الإبداع في شعر محمد بن الطلبة اليعقوبي)، وهو من تأليف مجموعة من الباحثين.
ـ تسجيل التكرار في شرح الاحمرار، للعالم الجليل أباه ولد عبد الله.
ولا شك أن دور دار الرضوان العلمي سيكون أكثر تأثيرا وأشد اتساعا لو أنها وفرت منشوراتها على شبكة الإنترنت من جهة، وبادرت من جهة أخرى إلى تحقيق ونشر بعض تفاسير العلماء الموريتانيين للقرآن العظيم.
فالتفاسير الموريتانية يلفها النسيان ويوشك أن تندثر رغم ما تزخر به من علم غزير لن تقتصر الاستفادة منه على أتباع المذهب المالكي، ولا على المختصين في العلوم اللغوية، بل سيعم نفعها شرائح عريضة من المسلمين والمهتمين بالدراسات القرآنية.
مقالات ذات الصلة
17/12/2024