لم يكن اختيارنا لهذه النصوص مقصودا بقدر ما كان عفويا ، للوقوف على بعض خصائص الكتابة عند المبدعة رحاب حسين الصائغ ، فجاءت تحمل في طياتها صورا مختلفة ، ومواقف عن المرأة ، والذات ، والآخر ، والاغتراب . نصوص برز من خلال قراءتها أنها تنتقد الفشل والإحباط ، و القيمة المبخسة للمرأة ، وتعكس قناعة الرجل الزائفة كما تعري عن طبيعة الانكسار والعلاقة الحميمة ، وسؤال المناورة في الحب كما في الجنس والاغتراب ، وتبرز الاحساس الانساني . لقد استوقفتنا كثيرا عتبة المجموعة ” ماضي ساحق ” بدلالتها القوية المحيلة على العنف والقهر والانكسار ، مثقلة بالموت وذكريات ماض ساحق . ما جعلها تتناص مع مضامين بعض النصوص في نسجها لخيط رابط ، وضمن سياقات كشفت عن وطأة الماضي وكأن صوره متجمدة في الذاكرة لا تبرحها أبدا . ولعل نص ” ماضي ساحق ” بقدر ما يبرز احتلال لثقل الزمن ، وآثاره على كيان البطل ، سيظل كنوع من الأسر لذكريات حب قديم وكبير وعاصف . إن أسرار هذا الجنون تظل حبيسة نظرة أولى ملتقطة متم ترجمتها بإحساس مرهف على ورقة ظلت هي الأخرى حبيسة درج مكتب بطل النص . لتتحول إلى مرآة عاكسة لصور لحظة عابرة لكنها جد مؤثرة سيتم تفقدها من حين لآخر لسنوات بانتظام ، إلى حد الادمان ، وإثارة شكوك زوجته وبعد ذلك يقينها .. فإذا كان البطل في إدمانه على قراءة الورقة يجد متعة ويحي ذكرى ماضيه السري الذي يعيد له بعضا من الاحساس بالوجود والكينونة ، وتؤكد عنفوان الحب بنوع من الاصرار المقيت الذي تحول لعادة يومية ، فإن زوجته سيكون لها موقف آخر وصارم وربما قاس جدا وهي تصر على عدم أخذ درج المكتب إلى شقتها الجديدة ، يقول السارد ” التقط من عينيها عبارة اسرته. كتب ما حس به وادخله درج مكتبه. كلما سرق العمر منه شيء. يفتح الدرج ويتمتع بقراءة ما كتبه. بعد سنوات منغمس في هموم حاضره. رفضت زوجته اخذ الدرج للبيت الجديد . إن سؤال الحب بقدر ما يبرز إحساس شخوص هذه النصوص سرعان ما يفتأ أن تنعكس ظلاله على مواقفهم الصريحة ، او المضمرة كما هو الأمر في نص ” هو ” بنوع من الحيرة والتردد المحفوف بالهواجس الكبيرة . فالغياب والصمت يؤججان بالشك ويعملان على حفر مسافة ملغومة يسكنها الحذر والترقب والانتظار . إن مداهمة صوت الموبايل لبطلة نص ” هو ” أثناء لحظة سيحول مجرى حياتها ، وبالتالي سيقلب موازين مشاعرها الحذرة نحو فرح ورهافة إحساس حد الرقص . وهو ما سيعلن عن تفجير الرغبة في الاستمرار في الحب ، وهي تسارع إلى مرآتها لتبدد شكوكها ودهشتها في محاولة ملحة للتأكد من كونها المعنية بالمكالمة الهاتفية . ما جعلها لحظة فارقة في تاريخ حياتها كأنثى وكمؤشر على الانتقال من حياة العزوبة نحو حياة أخرى . لكن كشف هوية بطل النص طلت مضمرة ومجرد اسم اشارة ” هو ” وهو ما يؤشر ضمنيا على أن البناء في الناص بقدر ما اعتمد ضمير الغائب جعل الكشف عن هوية البطل تستنتج من سياق النص وأحداثه . فالنصوص تنهض على ابراز طبيعة الاحساس الانساني بعمق يتم نحت تفاصيله أحيانا خارج حيزه القصصي الضامر من خلال الارتكاز على الوصف أحيانا لتسريع وثيرة الحدث وإيقاع النص المنفلت الذي قد لا نعيره اهتماما أثناء القراءة لكونه يتخذ له كرهان أساسي مجموعة من التفاصيل الصغيرة والايماءات والأحاسيس التي تتراص ضمن لحظات جارفة كما هو الأمر في نص ” دمعة ” الذي بقدر ما هو نقل لوقائع وتفاصيل لحظة صغيرة جدا لكنها مفعمة بالصدق ستكشف عن جانب من الضعف الانساني وعن تحول مفاجئ في النفسية من الانكسار نحو الاطمئنان والإحساس بالملل .من خلال ايماءة إلى رغبات دفينة قد لا يتم الالتفات إليها لحظة زهو واعتداد بالنفس كما هو الأمر في نص ” اختزال لحظة ” حيث يقول السارد ” تعمقت في النظر اليه ؛ بادرته.. ربطة العنق تتناسق والقميص اما ما تفيض به عيناك تختلف جدا عن ما يود ثغرك ان يقوله.. اطال الله عمرك قال لها: السيارة تنتظرنا عند البوابة. لا وقت لتغيير الملل ، وتأملي ملامحي آخر الليل. فالبناء في النص بقدر ما ينهض على مفارقة بليغة يعكس مدى الحرب الباردة بين الطرفين تثبت إحساس كل منهما وحقيقة مشاعره التي بقدر ما تم إضمارها من خلال الحوار ستبرز في الواقع أكثر إلحاحا وكمحرك لذاتين متأججتين برغبة يتم اختزالها لتبرز محوريتها ضمن سياق الاحداث . هكذا نلاحظ أن المناورة في النص تحوم حول واقعة منتظرة بقوة ، وتلاحم مفعم برغبة منتظرة بين الطرفين لكنها غير صريحة . فتناص العتبة وسياق النص لا يبرزان بجلاء إلا في قفلة النهاية المدوية لتفرز سؤالا يختزل لحظات التامل في ملامح بعضهما البعض كبداية ومحرك لواقعة وشيكة . في حين نلمس الاحساس المبخسة لذات المرأة ، ولأنوثتها في نص ” كسر ” حيث يبرز حاجز التردد الذي تمت إذابة جليده فجأة بين بطلين ذات لقاء مفاجئ بعد سنوات من الغياب يفعم اللحظة ببعض الأمل والرغبة في العودة لسابق عهديهما لكنهما سرعان ما سوف يعودان لطبيعتهما الجافة وإيقاعها الأول كغرباء تحت طائلة أسئلة أعادة الحاجز إلى مكانه يقول السارد ” حاجز التردد ياتي من هموم الدنيا. ساد موجة من الضحك بينهما، من سنوات لم يلتقيا. سالته: – هل تزوجت؟. ايقظت ذكرياته، أجابها: – رحمها الله كانت رائعة. بأعماقي خلجات تسودها الوحدة ، وحبك الدفين تعاظم. عانقت لعبة الأقدار وتركته بثبات” إن عامل النفاق بقدر ما أماط اللثام عن الزيف بفعل سؤال طائش ومفاجئ عن سر دفين وخيانة كبيرة في ذات الوقت ملفوفة بكذب باهت ما يبرز أن طبيعة الرجل مسكونة بالخيانات والفداحات والنسيان ..فمجرد عبور امرأة جديدة لممالكه تنسيه تاريخ مجيدا لأخريات . وسنلاحظ أن الاستدراك الذي قام به البطل بعد زلة لسانه بعد جوابه على سؤال ” هل تزوجت ؟” بقدر ما كان انفلاتا كان بمثابة قنبلة موقوتة ودلالة على انكسار مفاجئ وقاتل ، وبالتالي اقبار للحظة الحبور والأمل ما أبرز التناقض في مشاعره يقول السارد ” – رحمها الله كانت رائعة. بأعماقي خلجات تسودها الوحدة” وستظهر كمتقابل ضدي للعبارة المولية ” وحبك الدفين تعاظم” إن هذا التضارب بقدر ما يؤشر على الخلل يبرز الطعنة التي تلقتها البطلة وأردتها في مقتل وهي تعانق ” لعبة الأقدار وتغادر مملكته بثبات” إن الكسر المتناص مع العتبة يبرز كدليل على الانكسار القوي في الحب ، وعلى بتر في الواقع لأن الكسر قابل للجبر والالتحام في حين أن البتر يدل على القطيعة النهائية وهو ما أشرت عليه نهاية النص . وسيتكرر عامل الانكسار في نص آخر ” اعوام ” حيث نلمس وقعا رهيبا ، فبطل النص بقدر ما يعيش رتابة الانتظار على خلفية البحث عن مصصم لغلاف لكتابه أمر سيعكس سياق النص دلالة وقعه من خلال الوأد الجلي القابع في طيات جرح قديم حسب ما أكدته بداية النص ” لازمتنا الخرافة سنين، والحركات المقلوبة خارج زمن هتلر، تشبه الوأد. ” فطبيعة المكتوب تعلن تواجدها خارج سياق الواقع وبعيد كل البعد عن مواكبة المتغيرات ” ونلمس أن بعض النصوص لا تشيد على بناء مفارق ولكنها تقدم مواقف أو تقتنص لحظات حياتية هاربة ارتكازا على سرد واصف يختزل في طياته الحوار لتتحول للحظة حمالة لمفارقتها انطلاقا مما يحدث من متغيرات تبرز من فهم سياق الحدث أو الاحالة عليه يقول السارد في نص 55 ” حياتهما ساعة عقاربها لا تفارق جسد المكان. مركزها الحب يرقصان حول نبض قلبيهما. هدفهما تثبيت زمكاني لوجودهما. لا يعيق التصاقهما الحميم ثواني او دقائق ، طوال عشرون سنة ” إن البناء الدال على الالتحام يبرز في الواقع حميمية وحبا دفينا لا تذبل أزهاره آفات الزمن ، وبالتالي تعكس انسجاما ورقة متمركزا حول العشق الخالص لحظة تلاحم أبدي ( 55) لا تؤثر فيه أو عليه شوائب خارجية بقدر ما تدفعهما إلى الانصهار المطلق في جسد واحد كناسكين في مدارج صوفية . ولى جانب الدفء الانساني في العلاقات الانسانية يبرز الاحباط في نص ” يوم ” بحيث تعكس أشارة العتبة وملابساتها قلقا يعسر من الكشف عن حيثيات النص وملابساته . فالمعنى بقدر ما يؤشر على الانشطار والخيبة واليأس يبرز إجهاض الحلم في الحصول على صداقة واحدة ” من عالم افتراضي ” أحداث لا تتوقف معها الانتظار والمفاجآت ويوازيها تحول رهيب على مستوى الذات وما تردد بداخلها من تحول تطور إلى خبث خارجي جارح للمخيلة . فالنص بقدر ما يعلن استمراره داخل زمن افتراضي يعلن في الوقت ذاته عن بعد ثالث داخل الذات “. ذهب منه آخر نفس وتغير لون الصفحة، دخل فايروس الجهاز وعبث بمخيلة الرجل ” إن نقل تفاعلات المرئي تحول من البطل في النص إلى شخص محكي عنه رغم أن الاحداث متمحورة حوله لتعكس سلبية وترسخ قناعة القارئ في النهاية انطلاقا من سياق النص ” وفتح له صفحة في الفيس بوك. انتظر ان تتطلب منه صداقة” إنه حديث عن القناعة الزائفة والغائبة التي سنلمس لها امتدادا في نص آخر ” صخور ” من خلال صراع البطل مع ذاته ومواقفه في محاولة تقمصه لشخصية يود أن يلعب كدور جديد . في الوقت الذي تشير فيه كل القرائن أن طبيعته بعيدة كل البعد عن خصوصية الدور . ما يجعل التقمص ضربا من السخرية لغياب القناعة والإيمان بطبيعة الواقع وبالتالي بخصوصية الدور . فالإشكال الذي يطرحه النص يبرز تناقضا بين مواقف البطل وقناعاته المتكلسة وغير القابلة للتغيير . ما يجعل من أشكال ملاءمة الذات والعقلية مع الدور الجديد وكنهه صعبا وبالتالي يضحى المنظور للأشياء ومفاهيمها أكثر غموضا من قبيل ” الحرية ” مثلا كمفهوم خاص بالمقارنة مع مفهومه الرحب في ظل متغيرات الواقع ذاته وبالتالي تبرز المفارقة الكامنة بين الشخص والدور المراد تقمصه . إنها انعكاس لطبيعة العقلية العربية في سعيها إلى مواكبة التطورات العالمية دون فهم حقيقة وخصوصية المجتمع وهو ما يجعل من عامل فشلها أكبر من متوقع لوجود شروخ وفجوات سواء في الفهم أو التناول أو المقاربة ، وبالتالي يحدث انشطار رهيب في الذات . ويبرز عامل الاغتراب مقترنا بالألم في نص ” ورد” الذي يبرز الاحساس بالألم وجراح الذات الغائرة بين اغتراب قاس ووحدة مسببة للملل تعكسها برودة السرير وبرودة المشاعر وغياب الدفء الأسري أمور لا تكاد تميز بطلة النص عن بقية نساء بلدها الأرامل اللواتي يعشن ترملا حقيقيا . غير أن ما يشفع لها هو محاولتها الجادة لدرء احساسها المرير واقباره بالقوة كلما اجتاحها ” لترسم وردة على شباك الألم كل ليلة “وتوهم نفسها باطمئنان زائف إنها نصوص تحاول وضع ذات الأنثى في مرايا التأمل العميق بين قسوة الواقع في الحب والجنس والعيش احيانا على حافة الانتظار واليأس ..توهم الذات بالإحساس بالأمل في الوقت الذي تتواجد فيه في بؤر ملتهبة تقض من كينوتنها وتحاول محو كل خيوط أمل وهي في سعيها نحو التطلع لغد أفضل ..شخوص يتغير مجرى حياة بعضها في لمحة بصر أو من خلال إيماءة في زمن منفلت لكنها في الواقع تعكس حرقة الذات وتعكس مشاعرها في مرايا التأمل والانتظار والخوف ليظل الآخر هو المنقذ والمساعد على الاستمرار . لقد حاولت القاصة رحاب حسين الصائغ من خلال هذه النصوص تقديم صورة عن واقع الأنثى والرجل من منظور نفسي ارتكازا على الحفر في أغوار النفسية ونجواها أحيانا وأخرى باللجوء إلى تقديم وصف لحالتها وتداعياتها النفسية من خلال تشييد مفارق يتطلب تأملا ودقة عند القراءة لأن معانيه تتواجد أحيانا خارج النص و ضمن سياقاته الأخرى الناتجة عن التأويل .
————–
* قاص وناقد من المغرب