عندما جاءت الاخبار باكتشاف قنبلة لاصقة في سيارة جواد الحطاب ؛ لا أحد ممن يعرف هذا الشاعر من مجايليه وغيرهم – ممن رفضوا العشو النهاري تحديدا- إلا قال في نفسه: ساكون انا الآخر!
لماذا حاولوا أغتيال الحطاب؟ ألأنه كان يأوي بصوته المميز وكلماته النابتة كخوذ شهداء مجهولين في ليل العراق الطويل؟ أم هو غير ما يعشو في عيون آخرين؟ أم لأن الحطاب كان مؤثرا أكثر من غيره مثلما هو راء أيضا؟!
عندما بدأ الشاعر جواد الحطاب كتابة الشعر في أواخر السبعينات من القرن الماضي شرع بأولئك الذين يبحثون عن ذواتهم وسط ركامات الطبقية والفقر المدموغ بالموت والبحث عن الحرية وسط أسلاك شائكة وصدئة، والرنو إلى عالم آخر مختلف.. لكن الحطاب – كما هو معظم أبناء جيله فقد الحلم الموضوعي ؛ وربما لم تدغدغ منامات الحطاب بهذا المقدار أو ذاك طريقة الحياة الاخرى التي تتجه شمالا غالبا؛ ثم بقي حلمه وحده؛ فقد عرفنا الحطاب من خلال مجموعته الاولى( سلاما أيها الفقراء) باحثا عن امل مفقود دائما.
وكان جواد يعرف جيدا أن ليس ثمة بديل عن الكتابة التي تعد الوريثة الوحيدة لعموم الرائين القدماء والجدد – على قلتهم في زحمة تزايد سكاني هائل- في هذا العالم الموحش والمتوحش منذ ان اخذ موسى عصاه وبشّر بوصاياه، والذي بات (العشو النهاري) مستشريا فيه على نحو لم يسبق له مثيل !!
ربما كان على جواد الشاعر ان يرحل على جواد أشهب ليكشف لنا شيئا مما كان لنا ؟؟
( لو انك كنت انتظرت
واجلت موتك حتى نعود
لكنا اصطحبناك للقبر)
(قصيدة – حارس المقبرة أو مراثي صاحب الشاهر)
هكذا تتماهى الرؤى مع شاعر صديق غائب هو نفسه جواد الذي ينتظر الفجيعة نفسها وعلى جواد الموت نفسه.
يا عالم: سيان.
عالم و(وطن غالبا) مادي تفوح منه رائحة إطارات محترقة دائما : أنت لا تعرف متى تصدمك عربة موتى ومتى تبتلعك حفرة ما في شارع غباري عام، بل متى يمكن ان تطير في الهواء وتغادر هذه البلادة المصاحبة لهذا العشو النهاري. أنت لا تعرف حقا؛ لكن جواد يحاول ان يعرف او يرنو إلى إقناعنا ببعض معرفته.
الحطاب يمكن أن يرى من خلل فوهة ما في الأقل. ليس شرطا بالطبع أن تكون فوهة موت. لكن شيئا ما غير محدد يقابلنا في مجموعته (شتاء عاطل) الصادرة عن دار ازمنة الاردنية والمطبوعة ثانية في دار المستقبل العراقية. ولجواد – كما لغيره القليلين من الرائين الجدد – رؤاه الخاصة في محاولة كبح جماح العشو النهاري الذي بات حالة من (المعلن عنه) أيضا. يحاول الشاعر منذ البداية ان يصدمنا بمفارقاته الصادمة؛ هكذا تنبئنا تماثيله الحية:
( .. والتماثيل
بول كلاب
التماثيل..
نوم السكارى
التماثيل..
سوق الثياب القديمة)
لم تكن التماثيل على أية حال غير شاشات لعالم متكور ومتفارق في آن. هكذا تمشي التماثيل صباحا أيضا.
يتحوّل عالم جواد إلى الداخل حتما بعد أن فقد الموضوع بريقه، لكنه يشتعل في الجوف هذه المرة على نحو حاد. فجواد بعد كل نص يفرك عينيه طويلا. ربما من اجل استثارة دمعة هاربة أو استعادة شهقة عميقة لم يستطعها جواد في حياته العادية. ولذلك ليس ثمة من وسيلة يمكنها تحقيق ذلك بقوة غير نثر التساؤلات في(فضاء داخلي):
( لماذا صارت الببغاء
تتقن جيدا
تقليد أصوات الرصاص؟)
ما الذي يجعل من طائر جميل يقلد صوت الرصاص غير هذا التشوه المريع الذي لحق بالعالم بفعل الحروب المتواصلة وحروب الحصارات .. وحروب القتل المتواصل مع التفنن بالأشكال التي تفضي دائما إلى طحن الروح وغياب السيد الجسد.
كانت الببغاء قد فعلت ذلك بسبب ” جماجم الجنود المعلقة على الاغصان” من قبل، وهكذا تكون شجرة الحياة قد تحولت إلى كائن اخر بفعل العشو النهاري للجميع تقريبا.