د. أسماء غريب:
ناعُورة الضّاحكِ البَاكِي
أنا الفراتُ،
أنا الجَدُّ الضّاحكُ الباكي،
مُذْ رأيتُكِ ليْلةَ الغطْسِ القمريّ فُتِنْتُ بِكِ،
قاتِلتِي أنتِ مِنَ الأذَيْن إلى البُطينِ
يا مَنْ ألبَسْتِنِي ليلةَ الكشفِ بُرْدةَ الجَمالِ
وَتوّجْتنِي إمبراطوراً على القلبِ
وقُلتِ لي قبْل الفنَاءِ وَبعْدَ البَقاء:
هذا أنتَ يا حبيبي
لا أتجلّى إلاّ منْكَ وَفيكَ
ولا أنْشغلُ إلاّ بكَ عنْكَ.
ناعُورةُ الدّم
أنا الفراتُ،
أنا الأبُ السّعيدُ الشّقيّ
أنا صاحبُ الرأسِ المقطـُوع
والقلبِ الدّامي الموجُوعِ
وأنتِ، من أنتِ؟
يا سيّدتي ومَليكتِي،
ومنْ سمَحَ لكِ بالرّحيل إلى هناكَ،
إلى أرضِ الذّهبِ والموْتِ،
ومَنْ أعطاكِ كُلّ هَذا السُّلطان عَليّ،
وعَلى حَمَاميَ الأحمر وطاوُوسي الأبْيَض؟
أنتِ، من أنتِ؟
يا مَنْ دَثّرتُها بدِماءِ مَدامعِي
وأخفيتُها عنْ غيْري لشدّةِ غيْرتِي.
ناعُورَةُ الدّمْعِ
أنا الفراتُ،
أنا الابنُ الّذي يُدندنُ اسمَكِ كلّ يوم
وأنتِ، من أنتِ؟
يا يُوسُفَة، يا خَرابِي وفَجيعتِي
يا كرْبِي وبَلائي،
يا دَائي ودَوائي
كيْفَ رحلتِ إلى أرضِ النّمُور؟
وقدْ كُنتِ في صباكِ تأتينَ كلّ فجرٍ
لِوصالي بقلبكِ الجَرِيء وجسَدكِ البلوريّ
وشعركِ المُشمسِ، ومبْسمِكِ السَّاحرِ اللّؤلُؤيّ،
وكنتُ كلّ يومٍ أعَمّدكِ بعشْقِي وقُبُلاتي، وأنينِي وآهَاتي.
ناعُورة المِلْحِ فوقَ الجُرحِ
أنا الفراتُ،
أنا العارفُ العظيمُ، أنا المُوقفُ الواقفُ،
أنا الكَاهِنُ الجديدُ القديمُ
أنا الشّاهدُ عَلى جرائرِكُم ومَجَازركُم
وأنتِ، من أنتِ؟
يا طفْلتِي وابنتِي وحبِيبَتي
يا فرْحَتي ولؤلؤتي،
أخْبريني، كيفَ خطَفُوكِ منّي ليلا
وقيّدُوكِ حبلى وربَطُوا سنابلَكِ السّمْراء
في ذيلِ فرسٍ عمْياء
وجرّوكِ تصْرُخين من وادٍ إلى واد؟
كيْفَ يا حَبيبتي حَمَلوك إلى هناكَ،
إلى قفارِ المُلوكِ السُّود
إلى الأدْغال العذْراء،
وصَحَاري الأفَاعِي والعَقَارب
وتَرَكُوني هُنا،
أضعُ الملحَ فوقَ الجُرحِ
كُلّما باغَتَنِي الشّوْقُ إليكِ.
ناعورة الأسر
أنا الفراتُ،
أنا البرْقُ والرّعد، أنا العَهْدُ والوَعدُ،
أنا الفينيقُ، أنا السّيْفُ البتّار،
سأذبحُني مِنَ الوَريدِ إلى الوَريدِ
وأرقُصُ فوْقَ رأسي كزنجيّ يأكلُ الجَمْرَ،
وأركضُ كُلّ يومٍ تحْت لهيبِ القَيْظ،
لأنّي مَجنونٌ بكِ، مَسكونٌ بكِ.
فمنْ ذا منكُم رأى ذاتَ ابتلاءٍ حبيبتَه الحبْلى،
وقد تزوّجَها في السّبي جلادُّها المَلِكُ الأسْوَد
فو الله لا أنسَاها وَبي منْ محبّتها نارٌ
تذوب أمامَ لهيبِها براكينُ الزّهرة وعُطارد.
ناعُورة العُرْيِ
أنا الفراتُ،
أنا المجذوبُ الذي يتَعرّى ويُعَرّيكُم كلّ يوْم
أنا الحدّاد صَاحبُ المطرقَة والسنديان
سأصْهَرُكم وأجُرّكم جميعاً إلى مِسْبكي
كي تَروْنَ فوق مِرآتهِ الحمْراء كيْف فقأتُ عيْني
ليلةَ رأيتُ حبيِتي وقدْ فَرّت فجْراً منْ قيْدهَا،
عاريةً جائعةً وبين يديْها نسْريَ الأخضَر.
أنا الفُرات،
أنا منْ يأمرُك يا ابني بسرِّ الكَاف والنّون
بالزّواج هُناكَ في تلكَ الأرض بلؤلؤة سوداءَ
تكونُ جسْرا بيني وبينكَ، أنا الألفُ الأحْمَر
وبيني وبين أمّكَ، نقطتُنا البيضاء.
أنا الفُرات،
أنا منْ ينتظرُ عوْدتكَ يا ابنِي
ويهْمِسُ لكَ في القلْب كلّ يوم:
أعِدْها لي، أعِدْها لي، أعدْها لي:
عرُوسَتي صاحبةُ التّاجِ والهوْدَج الأزرق.
ناعُورة العَسَل والصُّوفِ
أنا دجلة،
حفيدتُكَ السّمراء يا جَدّي
أنا السّعيدةُ بكَ وبكلِّ خوابي العسلِ والصّوف
التي كُنْتَ ولمْ تزلْ تُرسلها إليّ
ليلةَ كلّ إسراء يا جدّي.
أنا دجلة،
أنا الرّبّة النَّسّاجة،
في كلّ ليلةٍ أجلسُ أمامَ مِنْسجي الزّمرّدي
وأصنعُ لكَ سلهاماً صُوفيا من حُروف بيضاء
وزرابي من خُيُوطٍ خضراء وحمراء
أبعثهُا لكَ كلّما اشتعلتْ في القلب
نيرانُ شوْقِي إليكَ
وأنتَ، من أنتَ يا جدّي؟
ناعورة الورد والحنّاء
أنا دجلة،
صاحبةُ بَساتينِ الورد الأحمرِ وأحواضِ الحنّاء،
أنا من تكتُبُ لكَ كُلّ يوم بإكْسيرِ الحيَاة
رسائلَ النّبُوة والعشقِ
وأحكِي لكَ عندَ مطْلَع كلّ فجْرٍ
أسطُورة جدّتي، حبيبتُكَ
صاحبةُ الجسد البلوي والضّفائرِ البيضِ.
أنا دجلة،
أنا اليدُ التي تمْسَحُ دموعكَ ساعة الحنينِ
وتغسلُ جراحَك عنْد الغسَق،
وأنتَ، من أنتَ ياجدّي؟
ناعورة الحَجَر الأسودِ والقلْبِ الأخْضر
أنا دِجلة،
صاحبة الحجَرِ الأسْودِ والقلب الأخْضر
أنا من تُدخِل رأسَها كلّ ليلة في قدرك الكبيرِ يا جدّي
كي أرى بعيونكَ وأرْوِي بشفاهكَ للعَالمين أجْمَعِين
حكاياتِ أهْلي البكّائين ورواياتِ أجسادِنا المبقورة
وأشلائنا المنثُورة في كلِّ آن وحين.
أنا دجلة،
الأميرةُ الأبيّة الشّامِخة،
أنا الصّوتُ الذّهبيّ الذي يناديكَ كلّ يوم
من عُمق أدغالِ القِممِ الإفريقية
وأنتَ، منْ أنت يا جدّي؟
ناعورة اللّقاء والعنَاق
أنا دجلة،
أنا القادمةُ إليكَ بمَبَاهِج العُشّاق يا جدّي
فانتظرْني واقرأ لِي عنْد كلّ سَحَر:
النّحْل ويس والحَديد،
انتظرْنِي فقد لبستُ بالأمسِ معْطفكَ الصُّوفي
وغطّيتُ رأسي بقُبّعة النّون
وحزمتُ حقائبي،
وقرأتُ قبْل الخروج من غُرفة مِنْسَجي
سِفْر العودة بعْدَ طُولِ فِراق
ثم ذهبْتُ إلى مَطارِ العناقِ
فهل ستأتي للقائي يا إمَاميَ الأكْبر؟
إيطاليا: 23/02/2014